اعلم أن التسعة التي عددها الله تعالى نظراً إلى حدوثها في ذواتها وصفاتها، ونظراً إلى إمكانها في ذواتها وصفاتها تدل على القادر المختار، ونظراً إلى ما فيها من الإحكام والإتقان تدل على أن فاعلها عالم، ثم أن ذلك الفاعل القديم يجب أن يكون علمه وقدرته واجبين، إذ لو كانا جائزين لافتقر إلى فاعل آخر ويلزم التسلسل وهو محال، وإذا كان العلم والقدرة واجبين وجب تعلقهما بكل ما صح أن يكون مقدوراً ومعلوماً وإلا لافتقر إلى المخصص وهو محال، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات، وقد ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة في الجسمية فكل ما صح على واحد منها صح على الآخر، فكما يصح على الأجسام السلفية الانشقاق والانفطار والظلمة وجب أن يصح ذلك على الأجسام، وإذا ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة والعلم، ثبت أنه تعالى قادر على تخريب الدنيا، وقادر على إيجاد عالم آخر، وعند ذلك ثبت أن القول بقيام القيامة ممكن عقلاً وإلى هنا يمكن إثباته بالعقل، فأما ما وراء ذلك من وقت حدوثها وكيفية حدوثها فلا سبيل إليه إلا بالسمع، ثم إنه تعالى تكلم في هذه الأشياء بقوله :﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَـاتًا﴾ ثم إنه تعالى ذكر بعض أحوال القيامة فأولها : قوله :﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَـاتًا﴾ والمعنى أن هذا اليوم كان في تقدير الله، وحكمه جداً تؤقت به الدنيا، أو حداً للخلائق ينتهون إليه، أو كان ميقاتاً لما وعد الله من الثواب والعقاب، أو كان ميقاتاً لاجتماع كل الخلائق في فصل الحكومات وقطع الخصومات.
وثانيها : قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
اعلم أن ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾ بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان، وهذا النفخ هو النفخة التي عندها يكون الحشر، والنفخ في الصور فيه قولان : أحدهما : أن الصور جمع الصور، فالنفخ في الصور عبارة عن نفخ الأرواح في الأجساد والثاني : أن الصور عبارة عن قرن ينفخ فيه. وتمام الكلام في الصور وما قيل فيه قد تقدم في سورة الزمر، وقوله :﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ معناه أنهم يأتون ذلك المقام فوجاً فوجاً حتى يتكامل اجتماعهم. قال عطاء كل نبي يأتي مع أمته، ونظيره قوله تعالى :﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ ﴾ (الإسراء : ٧١) وقيل جماعات مختلفة، روى صاحب "الكشاف" عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه، فقال عليه السلام : يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال : يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمى، وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم / أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت. وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله تعالى من أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء.
وثالثها قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon