قرأ عاصم وحمزة والكسائي فتحت خفيفة والباقون بالتثقيل والمعنى كثرت أبوابها المفتحة لنزول الملائكة قال القاضي : وهذا الفتح هو معنى قوله :﴿إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ﴾ (الإنشقاق : ١) ﴿إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ﴾ (الإنفطار : ١) إذ الفتح والتشقق والتفطر، تتقارب، وأقول : هذا ليس بقوي لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التشقق والتفطر، فربما كانت السماء أبواباً، ثم تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر، بل الدلائل السمعية دلت على أن عند حصول فتح هذه الأبواب يحصل التشقق والتفطر والفناء بالكلية، فإن قيل قوله :﴿وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ يفيد أن السماء بكليتها تصير أبواباً، فكيف يعقل ذلك ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : أن تلك الأبواب لما كثرت جداف صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة كقوله :﴿وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا﴾ (القمر : ١٢) أي كأن كلها صارت عيوناً تتفجر وثانيها : قال الواحدي هذا من باب تقدير حذف المضاف، والتقدير فكانت ذات أبواب وثالثها : أن الضمير في قوله :﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ عائد إلى مضمر والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة، كما قال تعالى :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (الفجر : ٢٢).
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
ورابعها : قوله تعالى :
اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة، ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله : وهو أن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله :﴿وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ (الحاقة : ١٤).
والحالة الثانية لها : أن تصير ﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾ (القارعة : ٥) وذكر الله تعالى ذلك في قوله :﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾ (القارعة : ٤ـ٥) وقوله :﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾ (المعارج : ٨ـ٩).
والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن وهو قوله :/ ﴿إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنابَثًّا * وَكُنتُمْ﴾ (الواقعة : ٤ـ٦).
والحالة الرابعة : أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله :﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا﴾ (طه : ١٠٥).
والحالة الخامسة : أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعاً في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي الحقيقة مارة إلى أن مرورها بسبب مرور الرياح بها (صيرها) مندكة متفتتة، وهي قوله :﴿تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ (النحل : ٨٨) ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره، فقال :﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ﴾ (الطور : ١٠) ﴿وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً﴾ (الكهف : ٤٧).
الحالة السادسة : أن تصير سراباً، بمعنى لا شيء، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئاً، كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئاً والله أعلم.
واعلم أن الأحوال المذكورة إلى ههنا هي : أحوال عامة، ومن ههنا يصف أهوال جهنم وأحوالها.
المسألة الأولى : قرأ ابن يعمر : أن جهنم بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة، بأن جهنم كانت مرصاداً للطاغين، كأنه قيل كان كذلك لإقامة الجزاء.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
المسألة الثانية : كانت مرصاداً، أي في علم الله تعالى، وقيل صارت، وهذان القولان نقلهما القفال رحمه الله تعالى، وفيه وجه ثالث ذكره القاضي، فإنا إذا فسرنا المرصاد بالمرتقب، أفاد ذلك أن جهنم كانت كالمنتظرة لمقدومهم من قديم الزمان، وكالمستدعية والطالبة لهم.
المسألة الثانية : في المرصات قولان : أحدهما : أن المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمضمار اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل، والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه، وعلى هذا الوجه فيه احتمالان : أحدهما : أن خزنة جهنم يرصدون الكفار والثاني : أن مجاز المؤمنين وممرهم كان على جهنم، لقوله :﴿مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ﴾ (مريم : ٧١) فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني : أن المرصاد مفعال من الرصد، وهو الترقب، بمعنى أن ذلك يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار والمطعان، قيل إنها ترصد أعداء الله وتشق عليهم، كما قال تعالى :﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ (الملك : ٨) قيل ترصد كل كافرة ومنافق، والقائلون بالقول الأول. استدلوا على صحة قولهم بقوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر : ١٤) ولو كان المرصاد نعتاً لوجب أن يقال : إن ربك لمرصاد،


الصفحة التالية
Icon