المسألة الرابعة : دلت الآية على أن جهنم كانت مخلوفة لقوله تعالى :﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي معدة، وإذا كان كذلك كانت الجنة أيضاً كذلك، لأنه لا قائل بالفرق.
وفيه وجهان : إن قلنا إنه مرصاد للكفار فقط كان قوله :﴿لِلطَّـاغِينَ﴾ من تمام ما قبله، والتقدير إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين، ثم قوله :﴿مَـاَابًا﴾ بدل من قوله :﴿مِرْصَادًا﴾ وإن قلنا بأنها كانت مرصاداً مطلقاً للكفار وللمؤمنين، كان قوله :﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ (النبأ : ٢١) كلاماً تاماً، وقوله :﴿لِّلطَّـاغِينَ مَـاَابًا﴾ كلام مبتدأ كأنه قيل إن جهنم مرصاد للكل، ومآب للطاغين خاصة، ومن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله مرصاداً أما من ذهب إلى القول الثاني وقف عليه، ثم يقول المراد بالطاغين من تكبر على ربه وطغى في مخالفته ومعارضته، وقوله :﴿مَـاَابًا﴾ أي مصيراً ومقراً.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
اعلم أنه تعالى لما بين أن جهنم مآب للطاغين، وبين كمية استقرارهم هناك، فقال :﴿لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور :﴿لَّـابِثِينَ﴾ وقرأ حمزة لبثين وفيه وجهان قال الفراء هما بمعنى واحد يقال لابث ولبث، مثل ثامع، وطمع، وفاره، وفره، وهو كثير، وقال صاحب الكشاف : واللبث أقوى لأن اللابث من وجد منه اللبث، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث، وهو أن يستقر في المكان، ولا يكاد ينفك عنه.
المسألة الثانية : قال الفراء أصل الحقب من الترادف، والتتابع يقال أحقب، إذا أردف ومنه الحقيبة ومنه كل من حمل وزراً، فقد احتقب، فيجوز على هذا المعنى :﴿لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا﴾ أي دهوراً متتابعة يتبع بعضها بعضاً، ويدل عليه قوله تعالى :﴿لا أَبْرَحُ حَتَّى ا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا﴾ (الكهف : ٦٠) يحتمل سنين متتابعة إلى أن أبلغ أو آنس، واعلم أن الأحقاب، واحدها حقب وهو ثمانون سنة عند أهل اللغة، والحقب السنون واحدتها حقبة وهي زمان من الدهر لا وقت له ثم نقل عن المفسرين فيه وجوه : أحدها : قال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس في قوله :﴿أَحْقَابًا﴾ الحقب الواحد بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، ونحو هذا روى ابن عمر مرفوعاً وثانيها : سأل هلال الهجري علياً عليه السلام. فقال الحقب مائة سنة، والسنة اثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون يوماً، واليوم ألف سنة وثالثها : وقال الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون : فإن قيل قوله أحقاباً وإن طالت إلا أنها متناهية، وعذاب أهل النار غير متناه، بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال وارداً، ونظير هذا السؤال قوله / في أهل القبلة :﴿إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ قلنا : الجواب من وجوه : الأول : أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً كلما مضى حقب تبعه حقب آخر، وهكذا إلى الأبد والثاني : قال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقوق في الأحقاب برداً ولا شراباً، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب. وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب وثالثها : هب أن قوله :﴿أَحْقَابًا﴾ يفيد التناهي، لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون. قال تعالى :﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ (المائدة : ٣٧) ولا شك أن المنطوق راجح، وذكر صاحب "الكشاف" في الآية وجهاً آخر، وهو أن يكون أحقاباً من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب. فينتصب حالاً عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين، وقوله :﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا﴾ (النبأ : ٢٤) تفسير له.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
ورابعها : قوله تعالى :
المسألة الأولى : إن اخترنا قول الزجاج كان قوله :﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا﴾ متصلاً بما قبله، والضمير في قوله :﴿فِيهَآ﴾ عائداً إلى الأحقاب، وإن لم نقل به كان هذا كلاماً مستأنفاً مبتدأ، والضمير في قوله عائداً إلى جهنم.


الصفحة التالية
Icon