المسألة الثانية : في قوله :﴿بَرْدًا﴾ وجهان الأول : أنه البرد المعروف، والمراد أنهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شراباً يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة عن بواطنهم، والحاصل أنه لا يجدون هواء بارداً، ولا ماء بارداً والثاني : البرد ههنا النوم، وهو قول الأخفش والكسائي والفراء وقطرب والعتبي، قال الفراء : وإنما سمى النوم برداً لأنه يبرد صاحبه، فإن العطشان ينام فيبرد بالنوم، وأنشد أبو عبيدة والمبرد في بيان أن المراد النوم قول الشاعر :
بردت مراشفها علي فصدني
عنها وعن رشفاتها البرد
يعني النوم، قال المبرد : ومن أمثال العرب : منع البرد البرد أي أصابني من البرد ما منعني من النوم، واعلم أن القول الأول أولى لأنه إذا أمكن حمل اللفظ على الحقيقة المشهورة، فلا معنى لحمله على المجاز النادر الغريب، والقائلون بالقول الثاني تمسكوا في إثباته بوجهين الأول : أنه لا يقال ذقت البرد ويقال ذقت النوم. الثاني : أنهم يذوقون برد الزمهرير، فلا يصح أن يقال إنهم ما ذاوا / برداً، وهب أن ذلك البرد برد تأذوا به، ولكن كيف كان، فقد ذاقوا البرد والجواب عن الأول : كما أن ذوق البرد مجاز فكذا ذوق النوم أيضاً مجاز، ولأن المراد من قوله :﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ أي لا يستنشقونه فيها نفساً بارداً، ولا هواء بارداً، والهواء المستنشق ممره الفم والألف فجاز إطلاق لفظ الذوق عليه والجواب عن الثاني : أنه لم يقل لا يذوقون فيها البرد بل قال يذوقون فيها برداً واحداً، وهو البرد الذي ينتفعون به ويستريحون إليه.
المسألة الثالثة : ذكروا في الحميم أنه الصفر المذاب وهو باطل بل الحميم الماء الحار المغلي جداً.
المسألة الرابعة : ذكروا في الغساق وجوهاً.
أحدها : قال أبو معاذ كنت أسمع مشايخنا يقولون الغساق فارسية معربة يقولون للشيء الذي يتقذرونه خاشاك. وثانيها : أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق، وهو الذي يسمى بالزمهرير. وثالثها : الغساق ما يسيل من أعين أهل النار وجلودهم من الصديد والقيح والعرق وسائر الرطوبات المستقذرة، وفي كتاب الخليل غسقت عينه، تغسق غسقاً وغساقاً. ورابعها : الغساق هو المنتن، ودليله ما روي أنه عليه السلام قال : لو أن دلواً من الغساق يهراق على الدنيا لأنتن أهل الدنيا. وخامسها : أن الغاسق هو المظلوم قال تعالى :﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ (الفلق : ٣) فيكون الغساق شراباً أسود مكروهاً يستوحش كما يستوحش الشي المظلم، إذا عرفت هذا فنقول إن فسرنا الغساق بالبارد كان التقدير : لا يذوقون فيها برداً إلا غساقاً ولا شراباً إلا حميماً، إلا أنهما جمعاً لأجل انتظام الآى، ومثله من الشعر قول امرىء القيس :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
لدي وكرها العناب والحشف البالي
والمعنى كأن قلوب الطير رطباً العناب ويابساً الحشف البالي. أما إن فسرنا الغساق بالصديد أو بالنتن احتمل أن يكون الاستنثاء بالحمي والغساق راجعاً إلى البرد والشراب معاً، وأن يكون مختصاً بالشراب فقط.
أما الاحتمال الأول : فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في الحميم والصديد المنتن.
وأما الاحتمال الثاني : فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في السخونة أو الصديد المنتن والله أعلم بمراده، فإن قيل الصديد لا يشرب فكيف استثنى من الشراب ؟
قلنا : إنه مائع فأمكن أن يشرب في الجملة فإن ثبت أنه غير ممكن كان ذلك استثناء من غير الجنس ووجهه معلوم.
المسألة الخامسة : قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه غساقاً بالتشديد فكأنه فعال بمعنى سيال، وقرأ الباقون بالتخفيف مثل شراب والأول نعت والثاني اسم.


الصفحة التالية
Icon