واعلم أنه تعالى لما شرح أنواع عقوبة الكفار بين فيما بعده أنه :﴿جَزَآءً وِفَاقًا﴾ وفي المعنى / وجهان : الأول : أنه تعالى أنزل بهم عقوبة شديدة بسبب أنهم أتوا بمعصية شديدة فيكون العقاب ﴿وِفَاقًا﴾ للذنب، ونظيره قوله تعالى :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) والثاني : أنه ﴿وِفَاقًا﴾ من حيث لم يزد على قدر الاستحقاق، ولم ينقص عنه وذكر النحوين فيه وجوهاً : أحدها : أن يكون الوفاق والموافق واحداً في اللغة والتقدير جزاء موافقاً وثانيها : أن يكون نصباً على المصدر والتقدير جزاء وافق أعمالهم ﴿وِفَاقًا﴾ وثالثها : أن يكون وصف بالمصدر كما يقال فلان فضل وكرم لكونه كاملاً في ذلك المعنى، كذلك ههنا لما كان ذلك الجزاء كاملاً في كونه على وفق الاستحقاق وصف الجزاء بكونه ﴿وِفَاقًا﴾ ورابعها : أن يكون بحذف المضاف والتقدير جزاء ذا وفاق وقرأ أبو حيوة ﴿وِفَاقًا﴾ فعال من الوفق، فإن قيل كيف يكون هذا العذاب البالغ في الشدة الغير المتناهي بحسب المدة ﴿وِفَاقًا﴾ للإتيان بالكفر لحظة واحدة، وأيضاً فعلى قول أهل السنة إذا كان الكفر واقعاً بخلق الله وإيجاده فكيف يكون هذا وفاقاً له ؟
وأما على مذهب المعتزلة فكان علم الله بعدم إيمانهم حاصلاً ووجود إيمانهم مناف بالذات لذلك العلم فمع قيام أحد المتنافيين كان التكليف بإدخال المنافي الثاني في الوجود ممتنعاً لذاته وعينه، ويكون تكليفاً بالجمع بين المتنافيين، فكيف يكون مثل هذا العذاب الشديد الدائم وفاقاً لمثل هذا الجرم ؟
قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنه تعالى لما بين على الإجمال أن ذلك الجزاء كان على وفق جرمهم شرح أنواع جرائمهم، وهي بعد ذلك نوعان :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩
٢٠
أولهما : قوله تعالى :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ وفيه سؤالان :
الأول : وهو أن الحساب شيء شاق على الإنسان، والشيء الشاق لا يقال فيه إنه يرجى بل يجب أن يقال : إنهم كانوا لا يخشون حساباً والجواب من وجوه : أحدها : قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله لا يرجون معناه لا يخافون، ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى :﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ (نوح : ١٣) وثانيها : أن المؤمن لا بد وأن يرجو رحمة الله لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، فقوله :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين وثالثها : أن الرجاء ههنا بمعنى التوقع لأن الراجي للشيء متوقع له إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء فسمى الجنس باسم أشرف أنواعه ورابعها : أن في هذه الآية تنبيهاً على أن الحساب مع الله جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف، وذلك لأن للعبد حقاً على الله تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب ولله تعالى حق على العبد في جانب العقاب، والكريم قد يسقط حق نفسه، ولا يسقط ما كان حقاً لغيره عليه، فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في / الحساب، فلهذا السبب ذكر الرجاء، ولم يذكر الخوف.
السؤال الثاني : أن الكفار كانوا قد أتوا بأنواع من القبائح والكبائر، فما السبب في أن خص الله تعالى هذا النوع من الكفر بالذكر في أول الأمر ؟
الجواب : لأن رغبة الإنسان في فعل الخيرات، وفي ترك المحظورات، إنما تكون بسبب أن ينتفع به في الآخرة، فمن أنكر الآخرة، لم يقدم على شيء من المستحسنات، ولم يحجم عن شيء من المنكرات، فقوله :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ تنبيه على أنهم فعلوا كل شر وتركوا كل خير.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٢٠
٢١
والنوع الثاني : من قبائح أفعالهم قوله :﴿وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا﴾ اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ولذلك قال إبراهيم :﴿رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ (الشعراء : ٨٣) ﴿هَبْ لِى حُكْمًا﴾ (الشعراء : ٨٣) إشارة إلى كمال القوة، النظرية ﴿وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ إشارة إلى كمال القوة العملية، فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين، أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ (النبأ : ٢٧) أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات، وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات.


الصفحة التالية
Icon