السؤال الثاني : قال تعالى : إن الأمر كله لله فكيف أثبت لهم ههنا تدبير الأمر. والجواب : لما كان ذلك الإتيان به كان الأمر كأنهله، فهذا تلخيص ما قاله المفسرون في هذا الباب، وعندي فيه وجه آخر : وهو أن الملائكة لها صفات سلبية وصفات إضافية، أما الصفات السلبية فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة، والموت والهرم والسقم والتركيب من الأعضاء والأخلاط والأركان، بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال، فقوله :﴿وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا﴾ إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعاً كلياً من جميع الوجوه وعلى هذا التفسير : هي ذوات النزع كاللابن والتامر، وأما قوله :﴿وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا﴾ إشارة إلى أن خروجها عن هذه الأحوال ليس على سبيل التكليف والمشقة كما في حق البشر، بل هم بمقتضى ماهياتهم خرجوا عن هذه الأحوال وتنزهوا عن هذه الصفات، فهاتان الكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية، وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان أحدهما : شرح قوتهم العاقلة أي كيف حالهم في معرفة ملك الله وملكوته والاطلاع على نور جلاله فوصفهم في هذا المقام بوصفين / أحدهما : قوله :﴿وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا﴾ فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلال الله ثم لا منتهى لسباحتهم، لأنه لا منتهى لعظمة الله وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه، فهم أبداً في تلك السباحة وثانيهما : قوله :﴿فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا﴾ وهو إشارة إلى مراتب الملائكة في تلك السباحة فإنه كما أن مراتب معارف البهائم بالنسبة إلى مراتب معارف البشر ناقصة، ومراتب معارف البشر بالنسبة إلى مراتب معارف الملائكة ناقصة، فكذلك معارف بعض تلك الملائكة بالنسبة إلى مراتب معارف الباقين متفاوتة، وكما أن المخالفة بين نوع الفرس ونوع الإنسان بالماهية لا بالعوارض فكذا المخالفة بين شخص كل واحد من الملائكة وبين شخص الآخر بالماهية فإذا كانت أشخاصها متفاوتة بالماهية لا بالعوارض كانت لا محالة متفاوتة في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي فهذا هو المراد من قوله :﴿فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا﴾ فهاتان الكلمتان المراد منهما شرح أحوال قوتهم العاقلة.
وأما قوله :﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ فهو إشارة إلى شرح حال قوتهم العاملة، وذلك لأن كل حال من أحوال العالم السفلي مفوض إلى تدبير واحد من الملائكة الذين هم عمار العالم العلوي وسكان بقاع السموات، ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم، لا جرم قدم شرح القوة العاقلة التي لهم على شرح القوة العاملة التي لهم، فهذا الذي ذكرته احتمال ظاهر والله أعلم بمراده من كلامه.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٧
واعلم أن أبا مسلم بن بحر الأصفهاني طعن في حمل هذه الكلمات على الملائكة، وقال : واحد النازعات نازعة وهو من لفظ الإناث، وقد نزه الله تعالى الملائكة عن التأنيث، وعاب قول الكفار حيث قال :﴿وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا ﴾ (الزخرف : ١٩).
واعلم أن هذا طعن لا يتوجه على تفسيرنا، لأن المراد الأشياء ذوات النزع، وهذا القدر لا يقتضي ما ذكر من التأنيث.
الوجه الثاني في تأويل هذه الكلمات : أنها هي النجوم وهو قول الحسن البصري ووصف النجوم بالنازعات يحتمل وجوهاً : أحدها : كأنها تنزع من تحت الأرض فتنجذب إلى ما فوق الأرض/ فإذا كانت منزوعة كانت ذوات نزع، فيصح أن يقال : إنها نازعة على قياس اللابن والتامر وثانيها : أن النازعات من قولهم نزع إليه أي ذهب نزوعاً، هكذا قاله الواحدي : فكأنها تطلع وتغرب بالنزع والسوق والثالث : أن يكون ذلك من قولهم : نزعت الخيل إذا جرت، فمعنى :﴿وَالنَّـازِعَـاتِ﴾ أي والجاريات على السير المقدر والحد المعين وقوله :﴿غَرْقًا﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حالاً من النازعات أي هذه الكواكب كالغرقى في ذلك النزع والإرادة وهو إشارة إلى كمال حالها في تلك الإرادة، فإن قيل : إذا لم تكن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة، فما معنى وصفها بذلك قلنا : هذا يكون على سبيل التشبيه كقوله تعالى :﴿وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (الأنبياء : ٣٣) فإن الجمع بالواو والنون يكون للعقلاء، ثم إنه ذكر في الكواكب على سبيل التشبيه والثاني : أن يكون معنى غرقها / غيبوبتها في أفق الغرب، فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقاً إشارة إلى غروبها أي تنزع، ثم تغرق إغراقاً، وهذا الوجه ذكره قوم من المفسرين.


الصفحة التالية
Icon