المسألة الثالثة : الرجفة في اللغة تحتمل وجهين أحدهما : الحركة لقوله :﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ﴾ (المزمل : ١٤). الثاني : الهدة المنكرة والصوت الهائل من قولهم : رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً، وذلك تردد أصواته المنكرة وهدهدته في السحاب، ومنه قوله تعالى :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ (الأعراف : ٩١) فعلى هذا الوجه الراجفة صيحة عظيمة فيها هول وشدة كالرعد، وأما الرادفة فكل شيء جاء بعد شيء آخر يقال ردفه، أي جاء بعده، وأما القلوب الواجفة فهي المضطربة الخائفة، يقال : وجف قلبه يجف وجافاً إذا اضطرب، ومنه إيجاف الدابة، وحملها على السير الشديد، وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الواجفة ومعناها واحد، قالوا : خائفة وجلة زائدة عن أماكنها قلقة مستوفزة مرتكضة شديدة الاضطراب غير ساكنة، أبصار أهلها خاشعة، وهو كقوله :﴿خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ ﴾ (الشورى : ٤٥) إذا عرفت هذا فنقول، اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الأمور أحوال يوم القيامة، وزعم أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس كذلك ونحن نذكر تفاسير المفسرين ثم نشرح قول أبي مسلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٧
أما القول الأول : وهو المشهور بين الجمهور، أن هذه الأحوال أحوال يوم القيامة فهؤلاء ذكروا وجوهاً أحدها : أن الراجفة هي النفخة الأولى، وسميت به إما لأن الدنيا تتزلزل وتضطرب عندها/ وإما لأن صوت تلك النفخة هي الراجفة، كما بينا القول فيه، والراجفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء على ما ذكره تعالى في سورة الزمر، ثم يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أن بين النفختين أربعين عاماً، ويروى في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك كالسبب للأحياء، وهذا مما لا حاجة إليه في الإعادة، ولله أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد وثانيها : الراجفة هي النفخة الأولى والرادفة هي قيام الساعة من قوله :﴿عَسَى ا أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (النمل : ٧٢) أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها فهي رادفة لهم لاقترابها وثالثها : الراجفة الأرض والجبال من قوله :﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ﴾ والرادفة السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك ورابعها : الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى القول الثاني : وهو قول أبي مسلم أن هذه الأحوال ليست أحوال يوم القيامة، وذلك لأنا نقلنا عنه أنه فسر النازعات بنزع القوس والناشطات بخروج السهم، والسابحات بعدو الفرس، والسابقات بسبقها، والمدبرات بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي والعدو، ثم بنى على ذلك فقال الراجفة هي خيل المشركين وكذلك الرادفة ويراد بذلك طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة هي القلقة، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين كقوله :﴿الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ (محمد : ٢٠) كأنه قيل لما جاء خيل العدو يرجف، وردفتها أختها اضطرب قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جبناً وضعفاً، ثم قالوا :/ ﴿أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ﴾ (النازعات : ١٠) أي نرجع إلى الدنيا حتى نتحمل هذا الخوف لأجلها وقالوا أيضاً :﴿تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ (النازعات : ١٢) فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المشركين وأوسطه حكاية لحال المنافقين وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه سبحانه وتعالى أجاب عن كلامهم بقوله :﴿فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ﴾ (النازعات : ١٤، ١٣) وهذا كلام أبي مسلم واللفظ محتمل له وإن كان على خلاف قول الجمهور.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٣٧
قوله تعالى :﴿قُلُوبٌ يَوْمَـاـاِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـارُهَا خَـاشِعَةٌ﴾ اعلم أنه تعالى لم يقل : القلوب يومئذ واجفة، فإنه ثبت بالدليل أن أهل الإيمان لا يخافون بل المراد منه قلوب الكفار، ومما يؤكد ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون :﴿أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ﴾ (النازعات : ١٠) وهذا كلام الكفار لا كلام المؤمنين، وقوله :﴿أَبْصَـارُهَا خَـاشِعَةٌ﴾ لأن المعلوم من حال المضطرب الخائف أن يكون نظره نظر خاشع ذليل خاضع يترقب ما ينزل به من الأمر العظيم، وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : كيف جاز الابتداء بالنكرة ؟
الجواب : قلوب مرفوعة بالابتداء وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله :﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾ (البقرة : ٢٢١).


الصفحة التالية
Icon