المسألة الأولى : يقال هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا، كما تقول : هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه، قال الواحدي : المبتدأ محذوف في اللفظ مراد في المعنى، والتقدير : هل لك إلى تزكى حاجة أو إربه، قال الشاعر :
فهل لكم فيها إلي فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما
ويحتمل أن يكون التقدير : هل لك سبيل إلى أن تزكى.
المسألة الثانية : الزكي الطاهر من العيوب كلها، قال :﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَ ﴾ (الكهف : ٧٤) وقال :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا﴾ (الشمس : ٩) وهذه الكلمة جامعة لكل ما يدعوه إليه، لأن المراد هل لك إلى أن تفعل ما تصير به زاكياً عن كل مالا ينبغي، وذلك بجمع كل ما يتصل بالتوحيد والشرائع.
المسألة الثالثة : فيه قراءتان : التشديد على إدغام تاء التفعل في الزاي لتقاربهما والتخفيف.
المسألة الرابعة : المعتزلة تمسكوا به في إبطال كون الله تعالى خالقاً لفعل العبد بهذه الآية، فإن هذا استفهام على سبيل التقرير، أي لك سبيل إلى أن تزكى، ولو كان ذلك بفعل الله تعالى لانقلب الكلام على موسى، والجواب عن أمثاله تقدم.
المسأة الخامسة : أنه لما قال لهما :﴿فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا﴾ (طه : ٤٤) فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق، وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة، ولهذا قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ (آل عمران : ١٥٩) ويدل على أن الذين يخاشنون الناس ويبالغون في التعصب، كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٠
٤١
ثم قال تعالى :﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بأن معرفة الله لا تستفاد إلا من الهادي تمسكوا بهذه الآية، وقالوا : إنها صريحة في أنه يهديه إلى معرفة الله، ثم قالوا : ومما يدل على أن هذا هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل ؛ أمران الأول : أن قوله :﴿هَل لَّكَ إِلَى ا أَن تَزَكَّى ﴾ يتناول جميع الأمور التي لا بد للمبعوث إليه منها، فيدخل فيه هذه الهداية فلما أعاده بعد ذلك علم أنه هو المقصود الأعظم من البعثة والثاني : أن موسى ختم كلامه عليه، وذلك ينبه أيضاً على أنه أشرف المقاصد من البعثة والجواب : أنا لا نمنع أن يكون للتنبيه والإشارة معونة في الكشف عن الحق إنما النزاع في إنكم تقولون : يستحيل حصوله إلا من المعلم ونحن لا نحل ذلك.
المسألة الثانية : دلت الآية على أن معرفة الله مقدمة على طاعته، لأنه ذكر الهداية وجعل الخشية مؤخرة عنها ومفرعة عليها، ونظيره قوله تعالى في أول النحل :﴿أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ (النحل : ٢) وفي طه :﴿إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى﴾ (طه : ١٤).
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ (فاطر : ٢٨) أي العلماء به، ودلت الآية على أن الخشية ملاك الخيرات، لأن من خشى الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، ومنه قوله عليه السلام "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل".
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤١
٤١
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الفاء في ﴿فَأَرَاـاهُ﴾ معطوف على محذوف معلوم، يعني فذهب فأراه، كقوله :﴿فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَا فَانفَجَرَتْ﴾ (البقرة : ٦٠) أي فضرب فانفجرت.
المسألة الثانية : اختلفوا في الآية الكبرى على ثلاثة أقوال : الأول : قال مقاتل والكلبي : هي اليد، لقوله في طه :﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ ﴾ (النمل : ١٢) آية أخرى ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى﴾ (طه : ٢٣) القول الثاني : قال عطاء : هي العصا، لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونه إلى لون آخر، وهذا المعنى كان حاصلاً في العصا، لأنها لما انقبلت حية فلا بد وأن يكون قد تغير اللون الأول، فإذاً كل ما في اليد فهو حاصل في العصا، ثم حصل في العصا أمور أخرى أزيد من ذلك، منها حصول الحياة في الجرم الجمادى، ومنها تزايد أجزائه وأجسامه، ومنها حصول القدرة الكبيرة والقوة الشديدة، ومنها أنها كانت ابتلعت أشياء كثيرة وكأنها فنيت، ومنها زوال الحياة والقدرة عنها، وفناء تلك الأجزاء التي حصل عظمها، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين بهما صارت العصا حية، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصاوالقول الثالث : في هذه المسألة قول مجاهد : وهو أن المراد من الآية الكبرى مجموع اليد والعصا، وذلك لأن سائر الآيات دلت على أن أول ما أظهر موسى عليه السلام لفرعون هو العصا، ثم أتبعه باليد، فوجب أن يكون المراد من الآية الكبرى مجموعهما.


الصفحة التالية
Icon