المسألة الثالثة : الذي يدل على أنه تعالى هو الذي بنى السماء وجوه أحدها : أن السماء جسم، وكل جسم محدث، لأن الجسم لو كان أزلياً لكان في الأزل إما أن يكون متحركاً أو ساكناً، والقسمان باطلان، فالقول بكون الجسم أزلياً باطل. أما الحصر فلأنه إما أن يكون مستقراً حيث هو فيكون ساكناً، أو لا يكون مستقراً حيث هو فيكون متحركاً، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يكون متحركاً، لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يكون ساكناً، لأن السكون وصف ثبوتي وهو ممكن الزوال، وكل ممكن الزوال مفتقر إلى الفاعل المختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فكل سكون محدث فيمتنع أن يكون أزلياً، وإنما قلنا : إن السكون وصف ثبوتي، لأنه يتبدل كون الجسم متحركاً بكونه ساكناً مع بقاء ذاته، فأحدهما لابد وأن يكون أمراً ثبوتياً، فإن كان الثبوتي هو السكون فقد حصل المقصود، وأن كان الثبوتي هو الحركة وجب أيضاً أن يكون السكون ثبوتياً، لأن الحركة عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان في غيره/ والسكون عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان فيه بعينه، فالتفاوت بين الحركة والسكون ليس في / الماهية، بل في المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير، وذلك وصف عارضي خارجي عن الماهية، وإذا كان كذلك فإذا ثبت أن تلك الماهية أمر وجودي في إحدى الصورتين وجب أن تكون كذلك في سورة أخرى، وإنما قلنا : إن سكون السماء جائز الزوال، لأنه لو كان واجباً لذاته لامتنع زواله، فكان يجب أن لا تتحرك السماء لكنا نراها الآن متحركة، فعلمنا أنها لو كانت ساكنة في الأزل، لكان ذلك السكون جائز الزوال، وإنما قلنا : إن ذلك السكون لما كان ممكناً لذاته، افتقر إلى الفاعل المختار لأنه لما كان ممكناً لذاته، فلا بد له من مؤثر، وذلك المؤثر لا يجوز أن يكون موجباً، لأن ذلك الموجب إن كان واجباً، وكان غنياً في إيجابه لذلك المعلول عن شرط لزم من دوامه دوام ذلك الأثر، فكان يجب أن لا يزول للسكون وإن كان واجباً ومفتقراً في إيجابه لذلك المعلول إلى شرط واجب لذاته، لزم من دوام العلة ودوام الشرط دوام المعلول، أما إن كان الموجب غير واجب لذاته، أو كان شرط إيجابه غير واجب لذاته كان الكلام فيه كالكلام في الأول، فيلزم التسلسل، وهو محال أو الإنتهاء إلى موجب واجب لذاته، وإلى شرط واجب لذاته، وحينئذ يعود الإلزام الأول، فثبت أن ذلك المؤثر لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً، فإذاً كل سكون، فهول فعل فاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث، لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد، والقصد إلى تكوين الكائن، وتحصيل الحاصل محال، فثبت أن كل سكون فهو محدث، فثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم في الأزل لا متحركاً ولا ساكناً، فهو إذاً غير موجود في الأزل، فهو محدث، وإذا كان محدثاً افتقر في ذاته، وفي تركيب أجزائه إلى موجد، وذلك هو الله تعالى، فثبت بالعقل أن باني السماء هو الله تعالى.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٦
الحجة الثانية : كل ما سوى الواجب فهو ممكن وكل ممكن محدث وكل محدث فعل صانع، إنما قلنا : كل ما سوى الواجب ممكن، لأنا لو فرضنا موجودين واجبين لذاتيهما لاشتركا في الوجود ولتباينا بالتعيين، فيكون كل منهما مركباً مما به المشاركة، ومما به الممايزة، وكل مركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فكل واحد من الواجبين بالذات ممكن بالذات هذا خلف، ثم ينقل الكلام إلى ذينك الجزأين، فإن كانا واجبين، كان كل واحد من تلك الأجزاء مركباً ويلزم التسلسل، وإن لم يكونا واجبين كان المفتقر إليهما أولى بعدم الوجود فثبت أن ماعدا الواجب ممكن وكل ممكن فله مؤثر وكل ما افتقر إلى المؤثر محدث، لأن الافتقار إلى المؤثر لا يمكن أن يتحقق حال البقاء لاستحالة إيجاد الموجد، فلا بد وأن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم، وعلى التقديرين فالحدوث لازم فثبت أن ما سوى الواجب محدث وكل محدث فلا بد له من محدث، فلا بد للسماء من بان.


الصفحة التالية
Icon