الحجة الثالثة : صريح العقل يشهد بأن جرم السماء لا يمتنع أن يكون أكبر مما هو الآن بمقدار خردلة، ولا يمتنع أن يكون أصغر بمقدار خردلة، فاختصاص هذا المقدار بالوقوع دون / الأزيد والأنقص، لا بد وأن يكون بمخصص، فثبت أنه لا بد للسماء من بان : فإن قيل لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق شيئاً وأعطاه قدرة يتمكن ذلك المخلوق بتلك القدرة من خلق الأجسام فيكون خالق السماء وبانيها هو ذلك الشيء ؟
الجواب : من العلماء من قال : المعلوم بالعقل أنه لا بد للسماء من محدث وأنه لا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى قديم والإله قديم واجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فأما نفي الواسطة فإنما يعلم بالسمع فقوله في هذه الآية :﴿بَنَـاـاهَا﴾ يدل على أن باني السماء هو الله لا غيره/ ومنهم من قال بل العقل يدل على بطلانه لأنه لما ثبت أن كل ما عداه محدث ثبت أنه قادر لا موجب، والذي كان مقدوراً له إنما صح كونه مقدوراً له بكونه ممكناً، فإنك لو رفعت الإمكان بقي الوجوب أو الامتناع وهما يحيلان المقدورية، وإذا كان ما لأجله صح في البعض أن يكون مقدوراً لله وهو الإمكان والإمكان عام في الممكنات وجب أن يحصل في كل الممكنات صحة أن تكون مقدورة لله تعالى، وإذا ثبت ذلك ونسبة قدرته إلى الكل على السوية وجب أن يكون قادراً على الكل، وإذا ثبت أن الله قادر على الممكنات فلو قدرنا قادراً آخر قدر على بعض الممكنات، لزم وقوع مقدور واحد بين قادرين من جهة واحدة، وذلك محال، لأنه إما أن يقع بأحدهما دون الآخر وهو محال، لأنهما لما كانا مستقلين بالاقتضاء فليس وقوعه بهذا أولى من وقوعه بذاك أو بهما معاً، وهو أيضاً محال لأنه يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما معاً وغنياً عنهما معاً وهو محال، فثبت بهذا أنه لا يمكن وقوع ممكن آخر بسبب آخر سوى قدرة الله تعالى، وهذا الكلام جيد، لكن على قول من لا يثبت في الوجود مؤثراً سوى الواحد، فهذا جملة ما في هذا الباب.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٦
واعلم أنه تعالى لما بين في السماء أنه بناها، بين بعد ذلك أنه كيف بناها، وشرح تلك الكيفية من وجوه :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٦
٤٧
أولها : ما يتعلق بالمكان، فقال تعالى :﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾.
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقاً، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكاً، فالمراد برفع سمكها شدة علوها حتى ذكروا أن ما بين الأرض وبينها مسيرة خمسمائة عام، و(قد) بين أصحاب الهيئة مقادير الأجرام الفلكية وأبعاد ما بين كل واحد منها وبين الأرض. وقال آخرون : بل المراد : رفع سمكها من غير عمد. وذلك مما لا يصح إلا من الله تعالى.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿فَسَوَّاـاهَا﴾ وفيه وجهان الأول : المراد تسوية تأليفها، وقيل : بل المراد نفي الشقوق عنها، كقوله :﴿مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ ﴾ (الملك : ٣) والقائلون بالقول الأول قالوا :﴿فَسَوَّاـاهَا﴾ عام فلا يجوز تخصيصه بالتسوية في بعض الأشياء، ثم قال هذا يدل على كون / السماء كرة، لأنه لو لم يكن كرة لكان بعض جوانبه سطحاً، والبعض زاوية، والبعض خطاً، ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا، والبعض أبعد، فلا تكون التسوية الحقيقة حاصلة، فوجب أن يكون كرة حتى تكون التسوية الحقيقة حاصلة، ثم قالوا لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار، فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرة ؟
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٧
٤٧
الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـاـاهَا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أغطش قد يجيء لازماً، يقال : أغطش الليل إذا صار مظلماً ويجيء متعدياً يقال : أغطشه الله إذا جعله مظلماً، والغطش الظلمة، والأغطش شبه الأعمش، ثم ههنا سؤال وهو أن الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسبب غروب الشمس، فقوله :﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلماً، وهو بعيد والجواب : معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير الله وتقديره : وحيئنذ لا يبقى الإشكال.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَأَخْرَجَ ضُحَـاـاهَا﴾ أي أخرج نهاراً، وإنما عبر عن النهار بالضحى، لأن الضحى أكمل أجزاء النهار في النور والضوء.
المسألة الثالثة : إنما أضاف الليل والنهار إلى السماء، لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها، ثم غروبها وطلوعها إنما يحصلان بسبب حركة الفلك، فلهذا السبب أضاف الليل والنهار إلى السماء، ثم إنه تعالى لما وصف كيفية خلق السماء أتبعه بكيفية خلق الأرض وذلك من وجوه :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٤٧
٤٧
الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دحاها بسطها، قال زيد بن عمرو بن نفيل :
دحاها فلما رآها استوت


الصفحة التالية
Icon