المسألة الثالثة : أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى، هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأجمعوا (على) أن الأعمى هو ابن أم مكتوم، وقرىء عبس بالتشديد للمبالغة ونحوه كلح في / كلح، أن جاءه منصوب بتولى أو بعبس على اختلاف المذهبين في إعمال الأقرب أو الأبعد ومعناه عبس، لأن جاءه الأعمى، وأعرض لذلك، وقرىء أن جاءه بهمزتين، وبألف بينهما وقف على ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ ثم ابتدأ على معنى ألآن جاءه الأعمى، والمراد منه الإنكار عليه، واعلم أن في الأخبار عما فرط من رسول الله ثم الإقبال عليه بالخطاب دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ وإلزام الحجة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٤
٥٤
فيه قولان : الأول : أي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن منك، من الجهل أو الإثم، أو يتعظ فتنفعه ذكراك أي موعظتك، فتكون له لطفاً في بعض الطاعات، وبالجملة فلعل ذلك العلم الذي يتلقفه عنك يطهره عن بعض مالا ينبغي، وهو الجهل والمعصية، أو يشغله ببعض ما ينبغي وهو الطاعة الثاني : أن الضمير في لعله للكافر، بمعنى أنت طمعت في أن يزكى الكافر بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق :﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أن ما طمعت فيه كائن، وقرىء فتنفعه بالرفع عطفاً على يذكر، وبالنصب جواباً للعل، كقوله :﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى ﴾ (غافر : ٣٧) وقد مر.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٤
٥٤
ثم قال :﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾ قال عطاء : يريد عن الإيمان، وقال الكلبي : استغنى عن الله، وقال بعضهم : استغنى أثرى وهو فاسد ههنا، لأن إقبال النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى، فأنت تقبل عليه، ولأنه قال :﴿وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ﴾ (عبس : ٩، ٨) ولم يقل : وهو فقير عديم، ومن قال : أما من استغنى بماله فهو صحيح، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن، بماله من المال.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٤
٥٤
قال الزجاج : أي أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه، يقال تصدى فلان لفلان، يتصدى إذا تعرض له، والأصل فيه تصدد يتصدى من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك، وقد ذكرنا مثل هذا من قوله :﴿إِلا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ (الأنفال : ٣٥) وقرىء : تصدى بالتشديد بإدغام التاء في الصاد، وقرأ أبو جعفر : تصدى، بضم التاء، أي تعرض، ومعناه يدعوك (داع إلى) التصدي له من الحرص، والتهالك على إسلامه.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٤
٥٥
ثم قال تعالى :﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ﴾ المعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٥
٥٥
ثم قال :﴿وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى ﴾ أن يسرع في طلب الخير، كقوله :﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ الجمعة : ٩).
وقوله :﴿وَهُوَ يَخْشَى ﴾ فيه ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في أن لا يهتم بأداء تكاليفه، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى، وما كان له قائد.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٥
٥٦
(ثم قال) :﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ أي تتشاغل من لهى عن الشيء والتهى وتلهى، وقرأ طلحة بن مصرف. تتلهى، وقرأ أبو جعفر ﴿تَلَهَّى ﴾ أي يلهيك شأن الصناديد، فإن قيل قوله :﴿فَأَنتَ لَه تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلا﴾ كان فيه اختصاصاً، قلنا نعم، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه، أي مثلك، خصوصاً لا ينبغى أن يتصدى للغني، ويتلهى عن الفقير.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٥٦
٥٦
ثم قال :﴿كَلا﴾ وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال الحسن : لما تلا جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات عاد وجهه، كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه، فلما قال :﴿كَلا﴾ سرى منه، أي لا تفعل مثل ذلك، وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى.
ثم قال :﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ وفيه سؤالان :


الصفحة التالية
Icon