وأعلم أن قوله :﴿كَلا﴾ ردع للإنسان عن تكبره وترفعه، أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر، وفي قوله :﴿لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَه ﴾ وجوه أحدها : قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضاً عليه أبداً، وهو إشارة إلى أن الإنساتن لا ينفك عن تقصير ألبتة، وهذا التفسير عندي فيه نظر، لأن قوله :﴿لَمَّا يَقْضِ﴾ الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق، وهو الإنسان في قوله :﴿لَمَّا يَقْضِ﴾ كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها : أن يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله، والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها : قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يقض له به.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٣
واعلم أن عادة الله تعالى جارية في القرآن بأنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس، فإنه يذكر عقيبها الدلائل الموجودة في الآفاق فجرى ههنا على تلك العادة وذكر دلائل الآفاق وبدأ بما يحتاج الإنسان إليه. فقال :
الذي يعيش به كيف دبرنا أمره، ولا شك أنه موضع الاعتبار، فإن الطعام الذي يتناول الإنسان له حالتان إحداهما : متقدمة وهي الأمور التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود والثانية : متأخرة، وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان حتى يحصل له الانتفاع بذلك الطعام المأكول، ولما كان النوع الأول أظهر للحسن وأبعد عن الشبهة، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكره، لأن دلائل القرآن لا بد وأن تكون بحيث ينتفع بها كل الخلق، فلا بد وأن تكون أبعد عن اللبس والشبهة، وهذا هو المراد من قوله :﴿فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِه ﴾ واعلم أن النبت إنما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض، فالسماء كالذكر، والأرض كالأنثى فذكر في بيان نزل القطر. قوله :
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله ﴿صَبَبْنَا﴾ المراد منه الغيث، ثم انظر في أنه كيف حدث المشتمل على هذه المياه العظيمة، وكيف بقي معلقاً في جو السماء مع غاية ثقله، وتأمل في أسبابه القريبة والبعيدة، حتى يلوح لك شيء من آثار نور الله وعدله وحكمته، وفي تدبير خلقة هذا العالم.
المسألة الثانية : قرىء (إنا) بالكسر، وهو على الاستئناف، وأنا بالفتح على البدل من الطعام والتقدير فلينظر الإنسان إلى أن كيف صببنا الماء قال أبو علي الفارسي : من قرأ بكسر إنا كان ذلك تفسيراً للنظر إلى طعامه كما أن قوله :﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ (الأنفال : ٧٤) تفسير للوعد، ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال، لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه، فهو كقوله :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه ﴾ (البقرة : ٢١٧) وقوله :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ * النَّارِ﴾ (البروج : ٤ـ٥). قوله تعالى :
والمراد شق الأرض بالنبات، ثم ذكر تعالى ثمانية أنواع من النبات : أولها : الحب : وهو المشار إليه بقوله :
وهو كل ما حصد من نحو الحنطة وغيرهما، وإنما قدم ذلك لأن كالأصل في الأغذية.
وثانيها : قوله تعالى :﴿وَعِنَبًا﴾ وإنما ذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٣
وثالثها : قوله تعالى :﴿وَقَضْبًا﴾ وفيه قولان :
الأول : أنه الرطبة وهي التي إذا يبست سميت بالقت، وأهل مكة يسمونها بالقضب وأصله من القطع، وذلك لأنه يقضب مرة بعد أخرى، وكذلك القضيب لأنه يقضب أي يقطع. وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي.
والثاني : قال المبرد : القضب هو العلف بعينه، وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول الحسن. والرابع والخامس : قوله تعالى :
ومنافعهما قد تقدمت في هذا الكتاب. وسادسها : قوله تعالى :
الأصل في الوصف بالغلب الرقاب فالغلب الغلاظ الأعناق الواحد أغلب يقال أسد أغلب، ثم ههنا قولان :
الأول : أن يكون المراد وصف كل حديقة بأن أشجارها متكاثفة متقاربة، وهذا قول مجاهد ومقاتل قالا : الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض، يقال اغلوب العشب واغلولبت الأرض إذا التف عشبها.
والثاني : أن يكون المراد وصف كل واحد من الأشجار بالغلظ والعظم، قال عطاء عن ابن عباس : يريد الشجر العظام، وقال الفراء : الغلب ما غلظ من النخل.
وسابعها : قوله :﴿وَفَـاكِهَةً﴾ وقد استدل بعضهم بأن الله تعالى لما ذكر الفاكهة معطوفة على العنب والزيتون والنخل وجب أن لا تدخل هذه الأشياء في الفاكهة، وهذا قريب من جهة، الظاهرة، لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه.
وثامنها : قوله تعالى :﴿وَأَبًّا﴾ والأب هو المرعى، قال صاحب "الكشاف" : لأنه يؤب أي يؤم وينتجع، والأب والأم أخوان قال الشاعر :
جذمنا قيس ونجد دارنا
لنا الأب به والمكرع


الصفحة التالية
Icon