كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس فهو وحش، والجمع الوحوش، و﴿حُشِرَتْ﴾ جمعت من كل ناحية، قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، قال المعتزلة : إن الله تعالى يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها على آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت والقتل وغير ذلك، فإذا عوضت على تلك الآلام، فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسناً فعل، وإن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر، وأما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على الله شيء بحكم الاستحقاق، ولكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها موتى فتموت، والغرض من ذلك هذه القصة ههنا وجوه أحدها :/ أنه تعالى إذا كان ﴿يَوْمُ الْقِيَـامَةِ﴾ يحشر كل الحيوانات إظهاراً للعدل، فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفين من الإنس والجن ؟
الثاني : أنها تجتمع في موقف القيامة مع شدة نفرتها عن الناس في الدنيا وتبددها في الصحاري، فدل هذا على أن اجتماعها إلى الناس ليس إلا من هول ذلك اليوم والثالث : أن هذه الحيوانات بعضها غذاء للبعض، ثم إنها في ذلك اليوم تجتمع ولا يتعرض بعضها لبعض وما ذاك إلا لشدة هول ذلك اليوم، وفي الآية قول آخر : لابن عباس وهو أن حشر الوحوش عبارة عن موتها، يقال ـ إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم ـ حشرتهم السنة، وقرىء حشرت بالتشديد. السادس : قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٩
قرىء بالتخفيف والتشديد، وفيه وجوه : أحدها : أن أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أوقدتها، والشيء إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة، فحينئذ لا يبقى في البحار شيء من المياه ألبته، ثم إن الجبال قد سيرت على ما قال :﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾ (النبأ : ٢٠) وحينئذ تصير البحار والأرض شيئاً واحداً في غاية الحرارة والإحراق، ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال، ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال، فصار وجه الأرض مستوياً مع البحار، ويصير الكل بحراً مسجوراً وثانيها : أن يكون ﴿سُجِّرَتْ﴾ بمعنى ﴿فُجِّرَتْ﴾ وذلك لأن بين البحار حاجزاً على ما قال :﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن : ١٩ـ٠٢) فإذا رفع الله ذلك الحاجز فاض البعض في البعض، وصارت البحار بحراً واحداً، وهو قول الكلبي : وثالثها :﴿سُجِّرَتْ﴾ أوقدت، قال القفال : وهذا التأويل يحتمل وجوهاً الأول : أن تكون جهنم في قعور البحار، فهي الآن غير مسجورة لقيام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك والثاني : أن الله تعالى يلقي الشمس والقمر والكواكب في البحار، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك والثالث : أن يخلق الله تعالى بالبحار نيراناً عظيمة حتى تتسخن تلك المياه، وأقول هذه الوجوه متكلفة لا حاجة إلى شيء منها، لأن القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لا بد وأن يكون قادراً على أن يفعل بالبحار ما شاء من تسخين، ومن قلب مياهها نيرناً من غير حاجة منه إلى أن يلقى فيها الشمس والقمر، أو يكون تحتها نار جهنم.
واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضاً بعد قيام القيامة، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين، أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. / السابع : قوله تعالى :
وفيه وجوه أحدها : قرنت الأرواح بالأجساد وثانيها : قال الحسن : يصيرون فيها ثلاثة أزواج كما قال :﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً * فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ (الواقعة : ٧ـ١٠) وثالثها : أنه يضم إلى كل صنف من كان طبقته من الرجال والنساء، فيضم المبرز في الطاعات إلى مثله، والمتوسط إلى مثله وأهل المعصية إلى مثله، فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله، والمعنى أن يضم كل واحد إلى طبقته في الخير والشر ورابعها : يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان كما قال :﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ (الصافات : ٢٢) قيل فزدناهم من الشياطين وخامسها : قال ابن عباس زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين وسادسها : قرن كل امرىء بشيعته اليهودي والنصراني بالنصراني، وقد ورد في خبر مرفوع وسابعها : قال الزجاج : قرنت النفوس بأعمالها. واعلم أنك إذا تأملت في الأقوال التي ذكرناها أمكنك أن تزيد عليها ما شئت.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٦٩
الثامن : قوله تعالى :
فيه مسائل :