﴿الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ﴾ ففيه قولان : أحدهما : أنه الكافر، لقوله من بعد ذلك :﴿كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ (الإنفطار : ٩) وقال عطاء عن ابن عباس : نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في ابن الأسد بن كلدة بن أسيد وذلك أنه ضرب النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يعاقبه الله تعالى، وأنزل هذه الآية والقول الثاني : أنه يتناول جميع العصاة وهو الأقرب، لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ. أما قوله :﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ فالمراد الذي خدعك وسول لك الباطل حتى تركت الواجبات وأتيت بالمحرمات، والمعنى ما الذي أمنك من عقابه، يقال : غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته مع أنه غير مأمون، وهو كقوله :﴿وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان : ٣٣) هذا إذا حملنا قوله :﴿الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ﴾ على جميع العصاة، وأما إذا حملناه على الكافر، فالمعنى ما الذي دعاك إلى الكفر والجحد بالرسل، وإنكار الحشر والنشر/ وههنا سؤالات :
الأول : أن كونه كريماً يقتضي أن يغتر الإنسان بكرمه بدليل المعقول والمنقول، أما المعقول فهو أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض، فلما كان الحق تعالى جواداً مطلقاً لم يكن مستعيضاً، ومتى كان كذلك استوى عنده طاعة المطيعين، وعصيان المذنبين، وهذا يوجب الاغترار لأنه من البعيد أن يقدم الغني على إيلام الضعيف من غير فائدة أصلاً، وأما المنقول فما روي عن علي عليه السلام، أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له : لم لم تجبني ؟
فقال : لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك، فاستحسن جوابه، وأعتقه، وقالوا أيضاً : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، ولما ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به، فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار به ؟
والجواب : من وجوه أحدها : أن معنى الآية أنك لماكنت ترى حلم الله على خلقه ظننت أن ذلك لأنه لا حساب ولا دار إلا هذه الدار، فما الذي دعاك إلى هذا الاغترار، وجرأك على إنكار الحشر والنشر ؟
فإن ربك كريم، فهو لكرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس في الدار التي جعلها لهم للجزاء، فالحاصل أن ترك المعاجلة بالعقوبة لأجل الكرم، وذلك لا يقتضي الاغترار بأنه لا دار بعد هذه الدار وثالثها : أن كرمه لما بلغ إلى حيث لا يمنع من العاصي موائد لطفه، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم، كان أولى فإذن كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار، وترك الجراءة والاغترار وثالثها : أن كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة والاستحياء من الاغترار والتواني ورابعها : قال بعض الناس :/ إنما قال :﴿بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول غرني كرمك، ولولا كرمك لما فعلت لأنك رأيت فسترت، وقدرت فأمهلت، وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد من قوله :﴿الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ﴾ ليس الكافر.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٧٨
السؤال الثاني : ما الذي ذكره المفسرون في سبب هذا الاغترار ؟
قلنا وجوه : أحدها : قال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان له وثانيها : قال الحسن : غره حمقه وجهله وثالثها : قال مقاتل : غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره، وقيل : للفضيل بن عياض إذا أقامك الله يوم القيامة، وقال لك :﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ ماذا تقول ؟
قال : أقول غرتني ستورك المرخاة.
السؤال الثالث : ما معنى قراءة سعيد بن جبير ما أغرك ؟
قلنا : هو إما على التعجب وإما على الاستفهام من قولك غر الرجل فهو غار إذا غفل، ومن قولك بيتهم العدو وهم غارون، وأغره غيره جعله غاراً، أما قوله تعالى :﴿الَّذِى خَلَقَكَ﴾ فاعلم أنه تعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقق ذلك الكرم أولها : الخلق وهو قوله :﴿الَّذِى خَلَقَكَ﴾ ولا شك أنه كرم وجود لأن الوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت، وهو الذي قال :﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٨)، وثانيها : قوله :﴿فَسَوَّاـاكَ﴾ أي جعلك سوياً سالم الأعضاء تسمع وتبصر، ونظيره قوله :﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا﴾ (الكهف : ٣٧) قال ذو النون : سواك أي سخر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر، وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، وسرك بالإيمان، وشرفك بالأمر والنهي وفضك على كثير ممن خلق تفضيلاً وثالثها : قوله :﴿فَعَدَلَكَ﴾ وفيه بحثان :


الصفحة التالية
Icon