البحث الأول : قال مقاتل : يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع، وهو كقوله :﴿بَلَى قَـادِرِينَ عَلَى ا أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَه ﴾ (القيامة : ٤) وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها، واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم، وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية، وقال أبو علي الفارسي : عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم، وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعداً لقبول العقل والقدرة والفكر، وصيرك بسبب ذلك مستولياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٧٨
البحث الثاني : قرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف، وفيه وجوه أحدها : قال أبو علي الفارسي : أن يكون المعنى عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني : قال الفراء :﴿فَعَدَلَكَ﴾ أي فصرفك إلى أي صورة شاء، ثم قال : والتشديد أحسن الوجهين لأنك تقول : عدلتك إلى كذا / كما تقول صرفتك إلى كذا، ولا يحسن عدلتك فيه ولا صرفتك فيه، ففي القراءة الأولى جعل في من قوله :﴿فِى أَىِّ صُورَةٍ﴾ صلة للتركيب، وهو حسن، وفي القراءة الثانية جعله صلة لقوله :﴿فَعَدَلَكَ﴾ وهو ضعيف، واعلم أن اعتراض القراء إنما يتوجه على هذا الوجه الثاني، فأما على الوجه الأول الذي ذكره أبو علي الفارسي فغير متوجه والثالث : نقل القفال عن بعضهم أنهما لغتان بمعنى واحد، أما قوله :﴿فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ﴾ ففيه مباحث الأول : ما هل هي مزيدة أم لا ؟
فيه قولان : الأول : أنها ليست مزيدة، بل هي في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك، وبناء على هذا الوجه، قال أبو صالح ومقاتل : المعنى إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة كلب أو صورة حمار أو خنزير أو قرد والقول الثاني : أنها صلة مؤكدة والمعنى في أي صورة تقتضيها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة، فإنه سبحانه يركبك على مثلها، وعلى هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها : أن المراد من الصور المختلفة شبه الأب والأم، أو أقارب الأب أو أقارب الأم، ويكون المعنى أنه سبحانه يركبك على مثل صور هؤلاء ويدل على صحة هذا ما روى أنه عليه السلام قال في هذا الآية :"إذا استقرت النطفة في الرحم، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم"، والثاني : وهو الذي ذكره الفراء والزجاج أن المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول والقصر والحسن والقبح والذكورة والأنوثة، ودلالة هذه الحالة على الصانع القادر في غاية الظهور، لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء وتأثير طبع الأبوين فيه على السوية، فالفاعل المؤثر بالطبيعة في القابل المتشابه لا يفعل إلا فعلاً واحداً، فلما اختلفت الآثار والصفات دل ذلك الاختلاف على أن المدبر هو القادر المختار، قال القفال : اختلاف الخلق والألوان كاختلاف الأحوال في الغنى والفقر والصحة والسقم، فكما أنا نقطع أنه سبحانه إنما ميز البعض عن البعض في الغنى والفقر، وطول العمر وقصره، بحكمة بالغة لا يحيط بكنهها إلا هو، فكذلك نعلم أنه إنما جعل البعض مخالفاً للبعض، في الخلق والألوان بحكمة بالغة، وذلك لأن بسبب هذا الاختلاف يتميز المحسن عن المسيء والقريب عن الأجنبي، ثم قال : ونحن نشهد شهادة لا شك فيها أنه سبحانه لم يفرق بين المناظر والهيئات إلا لما علم من صلاح عباده فيه وإن كنا جاهلين بعين الصلاح القول الثالث : قال الواسطي : المراد صورة المطيعين والعصاة فليس من ركبه على صورة الولاية كمن ركبه على صورة العداوة، قال آخرون : إنه إشارة إلى صفاء الأرواج وظلمتها، وقال الحسن : منهم من صوره ليستخلصه لنفسه، ومنهم من صوره ليشغله بغيره مثال الأول : أنه خلق آدم ليخصه بألطاف بره وإعلاء قدره وأظهر روحه من بين جماله وجلاله، وتوجه بتاج الكرامة وزينه برداء الجلال والهيبة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ٧٨
٨٠
قوله تعالى :﴿كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ اعلم أنه سبحانه لما بين بالدلائل العقلية على صحة القول / بالبعث والنشور على الجملة، فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك، وهو أنواع :


الصفحة التالية
Icon