المسألة الثانية : الطبق ما طابق غيره يقال : ما هذا يطبق كذا أي لا يطابقه، ومنه قيل : للغطاء الطبق وطباق الثرى ما يطابق منه، قيل : للحال المطابقة لغيرها طبق، ومنه قوله تعالى :﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ أي حالاً بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات والمعنى لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة، ولنذكر الآن وجوه المفسرين فنقول : أما القراءة برفع الياء وهو خطاب الجمع فتحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون المعنى لتركبن أيها الإنسان أموراً وأحوالاً أمراً بعد أمر وحالاً بعد حال ومنزلاً بعد منزل إلى أن يستقر الأمر على ما يقضي به على الإنسان أول من جنة أو نار فحينئذ يحصل الدوام والخلود، إما في دار الثواب أو في دار العقاب / ويدخل في هذه الجملة أحوال الإنسان من يكون نطفة إلى أن يصير شخصاً ثم يموت فيكون في البرزخ، ثم يحشر ثم ينقل، إما إلى جنة وإما إلى نار وثانيها : أن معنى الآية أن الناس يلقون يوم القيامة أحوالاً وشدائد حالاً بعد حال وشدة بعد شدة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله أن البعث كائن وأن الناس يلقون فيها الشدائد والأهوال إلى أن يفرغ من حسابهم فيصير كل أحد إلى أعدله من جنة أو نار وهو نحو قوله :﴿بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ﴾ (التغابن : ٧) وقوله :﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ (القلم : ٤٢) وقوله :﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ (المزمل : ١٧)، وثالثها : أن يكون المعنى أن الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة عما كانوا عليه في الدنيا فمن وضيع في الدنيا يصير رفيعاً في الآخرة، ومن رفيع يتضع، ومن متنعم يشقى، ومن شقى يتنعم، وهو كقوله :﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ (الواقعة : ٣) وهذا التأويل مناسب لما قبل هذه الآية لأنه تعالى لما ذكر حال من يؤتي كتابه وراء ظهره، أنه كان في أهله مسروراً، وكان يظن أن لن يحور أخبر الله أنه يحور، ثم أقسم على الناس أنهم يركبون في الآخرة طبقاً عن طبق أي حالاً بعد حالهم في الدنيا ورابعها : أن يكون المعنى لتركبن سنة الأولين ممن كان قبلكم في التكذيب بالنبوة والقيامة، وأما القراءة بنصب الياء ففيها قولان :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٤
الأول : قول من قال : إنه خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا التقدير ذكروا وجهين أحدهما : أن يكون ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلّم بالظفر والغلبة على المشركين المكذبين بالبعث، كأنه يقول : أقسم يا محمد لنركبن حالاً بعد حال حتى يختم لك بجميل العافية فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم. وفي هذا الوجه احتمال آخر يقرب مما ذكرنا، وهو أن يكون المعنى أنه يركب حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة. واحتمال ثالث : وهو يكون المعنى أن الله تعالى يبدله بالمشركين أنصاراً من المسلمين/ ويكون مجاز ذلك من قولهم طبقات الناس، وقد يصلح هذا التأويل على قراءة من قرأ بضم الباء، كأنه خطاب للمسلمين بتعريف تنقل الأحوال بهم وتصييرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي يلقونها منهم، كما قال :﴿لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ (آل عمران : ١٨٦) الآية وثانيها : أن يكون ذلك بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلّم بصعوده إلى السماء لمشاهدة ملكوتها، وإجلال الملائكة إياه فيها، والمعنى لتركبن يا محمد السموات طبقاً عن طبق، وقد قال تعالى :﴿سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ (الملك : ٣) وقد فعل الله ذلك ليلة الإسراء، وهذا الوجه مروي عن ابن عباس وابن مسعود وثالثها : لتركبن يا محمد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.
القول الثاني : في هذه القراءة، أن هذه الآية في السماء وتغيرها من حال إلى حال، والمعنى لتركبن السماء يوم القيامة حالة بعد حالة، وذلك لأنها أولاً تنشق كما قال :﴿إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ﴾ (الإنشقاق : ١) ثم تنفطر كما قال :﴿إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ﴾ (الإنفطار : ١) ثم تصير :﴿وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ (الرحمن : ٣٧) وتارة :﴿كَالْمُهْلِ﴾ (المعارج : ٨) على ما ذكر الله تعالى هذه الأشياء في آيات من القرآن فكأنه تعالى لما ذكر في أول السورة أنها تنشق أقسم في آخر السورة أنها تنتقل من أحوال إلى أحوال، وهذا الوجه مروي عن ابن مسعود.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿عَن طَبَقٍ﴾ أي بعد طبق كقول الشاعر :
ما زلت أقطع منهلا عن منهل
حتى أنخت بباب عبدالواحد
ووجه هذا أن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء آخر فقد صار إلى الثاني بعد الأول فصلحت بعد وعن معاقبة، وأيضاً فلفظة عن تفيد البعد والمجاوزة فكانت مشابهة للفظة بعد.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٠٤
أما قوله تعالى :﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ففيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon