اعلم أنه لا بد للقسم من جواب، واختلفوا فيه على وجوه أحدها : ما ذكره الأخفش وهو أن جواب القسم قوله :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾ واللام مضمرة فيه، كما قال :﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَـاـاهَا﴾ (الشمس : ١) ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا﴾ (الشمس : ٩) يريد. لقد أفلح، قال : وإن شئت على التقديم كأنه قيل : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج وثانيها : ما ذكره الزجاج، وهو أن جواب القسم :﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ (البروج : ١٢) وهو قول ابن مسعود وقتادة وثالثها : أن جواب القسم قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ﴾ (البروج : ١٠) الآية كما تقول : والله إن زيداً لقائم، إلا أنه اعترض بين القسم وجوابه، قوله :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾ إلى قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ﴾ (البروج : ١٠، ٤) ورابعها : ما ذكره جماعة من المتقدمين أن جواب القسم محذوف، وهذا اختيار صاحب "الكشاف" إلا أن المتقدمين، قالوا : ذلك المحذوف هو أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال وقال صاحب "الكشاف" : جواب القسم هو الذي يدل عليه قوله :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾ كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء، أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم، ويعلموا أن كفار مكة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السالفة يحرقون أهل الإيمان بالنار، وأحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش كما :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾ أما قوله تعالى :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة ونحن نذكر منها ثلاثة :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١١٣
أحدها : أنه كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً، وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتلها بواسطة رمي الحجر إليها، ثم رمى فقتلها، فصار ذلك سبباً لإعراض الغلام عن السحر واشتغاله بطريقة الراهب، ثم صار إلى حيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء، فاتفق أن عمي جليس للملك فأبرأه فلما رآه الملك قال : من رد عليك نظرك ؟
فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فأحضر الراهب وزجره عن دينه فلم يقبل الراهب قوله فقد بالمنشار، ثم أتوا بالغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا الله، فرجف بالقوم فهلكوا ونجا، فذهبوا به إلى سفينة لججوا بها ليغرقوه، فدعا الله فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول : بسم الله رب الغلام ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات، فقال الناس : آمنا برب الغلام. فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق، فصبرت على ذلك.
الرواية الثانية : روي عن علي عليه السلام أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها بعض ملوكها فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : إن الله تعالى قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : بعد ذلك حرمه، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له : أبسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فقالت : أبسط فيهم السيف فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أتى فيها الذين أرادهم الله بقوله :﴿قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ﴾.