واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية، فقالوا : إن كان المراد من قوله :﴿يَخْرُجُ مِنا بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآاـاِبِ﴾ أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك، لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، فيصير مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء، ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه، وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف، بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ، والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ، ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولاً في عينيه، وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف/ لأن مستقر المني هو أوعية المني، وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين، وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف، لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك الجواب : لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ، والدماغ خليفة وهي النخاع وهو في الصلب، وله شعب كثيرة نازلة / إلى مقدم البدن وهو التريبة، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر، على أن كلامكم في كيفية تولد المني، وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف، وكلام الله تعالى أولى بالقبول.
المسألة الخامسة : قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل، لوجوه أحدها : أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر، فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار وثانيها : أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره، فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم وثالثها : أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة، فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى ورابعها : وهو أن الاستدلال بهذا الباب، كما أنه يدل قطعاً على وجود الصانع المختار الحكيم، فكذلك يدل قطعاً على صحة البعث والحشر والنشر، وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين، بل في جميع العالم، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنساناً سوياً، وجب أن يقال : إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقاً سوياً، كما كان أولاً ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ، فرع عليه أيضاً دلالته على صحة المعاد فقال :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٢٢
١٢٥
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره، والسبب فيه وجهان الأول : دلالة خلق عليه، والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني : أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظاً، ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه، وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات، هو الله سبحانه وتعالى، فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور.
المسألة الثانية : الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته، والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع ؟
فيه وجهان أولهما : وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان، والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حياً، وهو كقوله تعالى :﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ (يس : ٧٩) وقوله :﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ﴾ (الروم : ٢٧) وثانيهما : أن الضمير غير عائد إلى الإنسان، ثم قال مجاهد : قادر على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك : على أن يرد الماء في الصلب. وروي أيضاً عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل، وقال مقاتل بن حيان : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا / إلى النطفة، واعلم أن القول الأول أصح، ويشهد له قوله :﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ﴾ أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة، ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة، وصف حاله في ذلك اليوم فقال :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٢٥
١٢٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿يَوْمَ﴾ منصوب برجعه ومن جعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بقوله :﴿فَمَا لَه مِن قُوَّةٍ﴾ أي ماله من قوة ذلك اليوم.
المسألة الثانية :﴿تُبْلَى﴾ أي تختبر، والسرائر ما أسر في القلوب من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال، وفي كيفية الابتلاء والاختبار ههنا أقوال :


الصفحة التالية
Icon