الأول : ما ذكره القفال معنى الاختبار ههنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضاً في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب، ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء، وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان، وإن كان عالماً بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه.
والوجه الثاني : أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها، فرب فعل يكون ظاهره حسناً وباطنه قبيحاً، وربما كان بالعكس. فاختبارها ما يعتبر بين تلك الوجوه المتعارضة من المعارضة والترجيح، حتى يظهر أن الوجه الراجح ما هو، والمرجوح ما هو.
الثالث : قال أبو مسلم : بلوت يقع على إظهار الشيء ويقع على امتحانه كقوله :﴿وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ﴾ وقوله :﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم﴾ ثم قال المفسرون :﴿السَّرَآاـاِرُ﴾ التي تكون بين الله وبين العبد تختبر يوم القيامة حتى يظهر خبرها من سرها ومؤديها من مضيعها، وهذا معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما : يبدي الله يوم القيامة كل سر منها، فيكون ذيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه، يعني من أداها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه أغبر.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم، لأن قوة الإنسان إما أن تكون له لذاته أو مستفادة من غيره، فالأول منفي بقوله تعالى :﴿فَمَا لَه مِن قُوَّةٍ﴾ والثاني منفي بقوله :﴿وَلا نَاصِرٍ﴾ والمعنى ماله من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل من العذاب ﴿وَلا نَاصِرٍ﴾ ينصره في دفعه ولا شك أنه زجر وتحذير، ومعنى دخول من في قوله :﴿مِن قُوَّةٍ﴾ على وجه النفي لقليل ذلك وكثيره، كأنه قيل : ماله من شيء من القوة ولا أحد من الأنصار.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٢٥
المسألة الرابعة : يمكن أن يتمسك بهذه الآية في نفي الشفاعة، كقوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا﴾ (البقرة : ٤٨) إلى قوله :﴿وَلا هُمْ يُنصَرُونَ﴾، الجواب : ما تقدم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٢٥
١٣٠
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما فرغ من دليل التوحيد، والمعاد أقسم قسماً آخر، أما قوله :﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ فنقول : قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويتكرر. واعلم أن كلام الزجاج وسائر أئمة اللغة صريح في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر بل سمي رجعاً على سبيل المجاز، ولحسن هذا المجاز وجوه أحدها : قال القفال : كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ووصل الحروف به، فكذا المطر لكونه عائداً مرة بعد أخرى سمي رجعاً وثانيها : أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وثالثها : أنهم أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً ليرجع ورابعها : أن المطر يرجع في كل عام، إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين أقوال : أحدها : قال ابن عباس :﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ أي ذات المطر يرجع لمطر بعد مطر وثانيها : رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعاً، أي تعطيه مرة بعد مرة وثالثها : قال ابن زيد : هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما، والقول هو الأول، أما قوله تعالى :﴿وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ فاعلم أن الصدع هو الشق ومنه قوله تعالى :﴿يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ (الروم : ٤٣) أي يتفرقون وللمفسرين أقوال قال ابن عباس : تنشق عن النبات والأشجار، وقال مجاهد : هو الجبلان بينهما شق وطريق نافذ. كما قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا﴾ (الأنبياء : ٣١) وقال الليث : الصدع نبات الأرض، لأنه يصدع الأرض فتنصدع به، وعلى هذا سمي النبات صدعاً لأنه صادع للأرض، واعلم أنه سبحانه كما جعل، كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات، فالسماء ذات الرجع كالأب، والأرض ذات الصدع كالأم وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء من المطر متكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك، ثم إنه تعالى أردف هذا القسم بالمقسم عليه فقال :﴿إِنَّه لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٠
المسألة الأولى : في هذا الضمير قولان :
الأول : ما قال القفال وهو : أن المعنى أن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم / الذي تبلى فيه سرائركم قول فصل وحق.
والثاني : أنه عائد إلى القرآن أي القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل : له فرقان، والأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أولى.


الصفحة التالية
Icon