المسألة الثالثة : أن قوله :﴿قُدِرَ﴾ يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقداراً معلوماً على ما قال :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ (الحجر : ٢١) وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات، بل العالم كله من أعلى اعليين إلى أسفل السافلين، تفسير هذه الآية. وتفصيل هذه الجملة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٢
أما قوله :﴿فَهَدَى ﴾ فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين، فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى، وقوله :﴿فَهَدَى ﴾ عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدراً لفعل معين، ويحصل من مجموعها تمام المصلحة، وللمفسرين فيه وجوه، قال مقاتل : هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها، وقال آخرون : هداه للمعيشة ورعاه، وقال آخرون : هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة، وذلك لأنه جعله حساساً دراكاً متمكناً من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال :﴿إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان : ٣) وقال :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا﴾ (الشمس : ٨، ٧) وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء : قدر فهدى وأضل، فاكتفى بذكر إحداهما : كقوله :﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ (النحل : ٨١) وقال آخرون : الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله :﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى ﴾ (الشورى : ٥٢) أي تدعو/ وقد دعى الكل إلى الإيمان، وقال / آخرون : هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه، ونعوت صمديته، وفردانيته، وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة، فهي لا محالة تدل على الصانع القديم، وقال قتادة في قوله :﴿فَهَدَى ﴾ إن الله تعالى ما أكره عبداً على معصية، ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره بها، ولكن رضي لكم الطاعة، وأمركم بها، ونهاكم عن المعصية، واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين، فمنهم من حمل قوله :﴿فَهَدَى ﴾ على ما يتعلق بالدين كقوله :﴿وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ﴾ ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا، والأول أقوى، لأن قوله :﴿خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ يرجع إلى أحوال الدنيا، ويدخل فيه إكمال العقل والقوى، ثم أتبعه بقوله :﴿فَهَدَى ﴾ أي كلفه ودله على الدين، أما قوله تعالى :﴿وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾ فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم : فقال :﴿وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾ أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة، والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش، قال ابن عباس : المرعى الكلأ الأخضر، ثم قال : فجعله غثاء أحوى وفيه مسألتان :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٢
المسألة الأولى : الغثاء ما يبس من النبت فحملته الأودية والمياه وألوت به الرياح، وقال قطرب واحد الغثاء غثاءة.
المسألة الثانية : الحوة السواد، وقال بعضهم : الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة، وفي أحوى قولان : أحدهما : أنه نعت الغثاء أي صار بعد الخضرة يابساً فتغير إلى السواد، وسبب ذلك السواد أمور أحدها : أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء، ومن شأن البرودة أنها تبيض الرطب وتسود اليابس وثانيها : أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود وثالثها : أن يحملها الريح فتلصق بها الغبار الكثير فتسود القول الثاني : وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته، كما قيل :﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ أي سوداوان لشدة خضرتهما، والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء، كقوله :﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا * قَيِّمًا﴾ أي أنزل قيماً ولم يجعل له عوجاً.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٢
١٣٣
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً بالتسبيح فقال :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾ (الأعلى : ١) وعلم محمداً عليه السلام أن ذلك التسبيح لا يتم ولا يكمل إلا بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن، لما بينا أن التسبيح الذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه، فلا جرم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأزال الله تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon