أما قوله :﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ ففيه احتمالان أحدهما : أن يقال : هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئاً، قال الكلبي : إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً/ وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله :﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ أحد أمور أحدها : التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى :﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ (الكهف : ٢٤، ٢٣) وكأنه تعالى يقول : أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن / وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئاً، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لذلك لقدر عليه، كما قال :﴿وَلَـاـاِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ (الإسراء : ٨٦) ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام :﴿ لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ألبتة، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته وثالثها : أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله صلى الله عليه وسلّم في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ، في جميع الأحوال ورابعها : أن يكون الغرض من قوله :﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء (الله)، ولا يقصد استثناء شيء. القول الثاني : أن قوله :﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ استثناء في الحقيقة، وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوهاً أحدها : قال الزجاج : إلا ما شاء الله أن ينسى، فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك، فإذاً قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسياناً كلياً دائماً، روى أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال : نسيتها. وثانيها : قال مقاتل : إلا ما شاء الله أن ينسيه، ويكون المراد من الإنساء ههنا نسخة، كما قال :﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ﴾ فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به، فيصير ذلك سبباً لنسيانه، وزواله عن الصدور. وثالثها : أن يكون معنى قوله :﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ القلة والندرة، ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع، بل من الآداب والسنن، فإنه لو نسي شيئاً من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع، وإنه غير جائز.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٣
أما قوله تعالى :﴿إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ ففيه وجهان أحدهما : أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان، فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه والثاني : أن يكون المعنى : فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ، فإنه أعلم بمصالح العبيد، فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٣
١٣٤
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اليسرى هي أعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر، إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه وجوه : أحدها : أن قوله :﴿وَنُيَسِّرُكَ﴾ معطوف على وقوله :﴿اللَّه إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ اعتراض، والتقدير : سنقرؤك فلا تنسى، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر، يعني في حفظ القرآن وثانيها : قال ابن مسعود : اليسرى الجنة، والمعنى نيسرك للعمل المؤدى إليها وثالثها : نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ورابعها : نوفقك للشريعة وهي الحنيفية السهلة السمحة، والوجه الأول أقرب.


الصفحة التالية
Icon