المسألة الثانية : لسائل أن يسأل فيقول العبارة المعتادة أن يقال : جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان، ولا يقال : جعل فلان ميسراً للفعل الفلاني فما الفائدة فيه ؟
ههنا الجواب : أن هذه العبارة كما أنها اختيار القرآن في هذا الموضع، وفي سورة الليل أيضاً، فكذا هي اختيار الرسول في قوله عليه السلام :"اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وفيه لطيفة علمية، وذلك لأن ذلك الفعل في نفسه ماهية ممكنة قابلة للوجود والعدم على السوية، فما دام القادر يبقى بالنسبة إلى فعلها وتركها على السوية امتنع صدور الفعل عنه، فإذا نرجح جانب الفاعلية على جانب التاركية، فحينئذ يحصل الفعل، فثبت أن الفعل ما لم يجب لم يوجد، وذلك الرجحان هو المسمى بالتيسير، فثبت أن الأمر بالتحقيق هو أن الفاعل يصير ميسراً للفعل، لا أن الفعل يصير ميسراً للفاعل، فسبحان من له تحت كل كلمة حكمة خفية وسر عجيب يبهر العقول.
المسألة الثالثة : إنما قال :﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ بنون التعظيم لتكون عظمة المعطى دالة على عظمة العطاء، نظيره قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ﴾ (يوسف : ٢) ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ (الحجر : ٩) (إنا أعطيناك الكوثر} (الكوثر : ١) دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره، وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال، ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين، وهدياً للخلق أجمعين.
دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره، وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال، ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين، وهدياً للخلق أجمعين.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٤
١٣٥
فاعلم أنه تعالى لما تكمل بتيسير جميع مصالح الدنيا والآخرة أمر بدعوة الخلق إلى الحق، لأن كمال حال الإنسان في أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه تاماً وفوق التمام، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام تاماً بمقتضى قوله :﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ (الأعلى : ٨) أمر بأن يجعل نفسه فوق التمام بمقتضى قوله :﴿فَذَكِّرْ﴾ لأن التذكير يقتضي تكميل الناقصين وهداية الجاهلين، ومن كان كذلك كان فياضاً للكمال، فكان تاماً وفوق التمام، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم، فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله :﴿إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ ؟
الجواب : أن المعلق بأن على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات منها هذه الآية ومنها قوله :﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ (النور : ٣٣) ومنها قوله :﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (البقرة : ١٧٢) ومنها قوله :﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ (النساء : ١٠١) فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف، ومنها قوله :﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ﴾ (البقرة : ٢٨٣) والرهن جائز مع الكتابة، ومنها قوله :﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه ﴾ والمراجعة جائزة بدون هذا الظن، إذا عرفت هذا فنقول ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد إحداها : أن من باشر فعلاً لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض، كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الأفضاء، فلذلك قال :﴿إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ وثانيها : أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين، ونبه على الأخرى كقوله :﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ (النحل : ٨١) والتقدير :﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ أو لم تنفع وثالثها : أن المراد منه البعث على الانتفاع بالذكرى، كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق : قد أوضحت لك إن كنت تعقل فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع به ورابعها : أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه لا تنفعهم الذكرى كما يقال للرجل : ادع فلاناً إن أجابك، والمعنى وما أراه يجيبك وخامسها : أنه عليه السلام دعاهم إلى الله كثيراً، وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر، وكان عليه السلام يحترق حسرة على ذلك فقيل له :﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍا فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق : ٤٥) إذ التذكير العام واجب في أول الأمر فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٥


الصفحة التالية
Icon