السؤال الثاني : التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بالعواقب، أما علام الغيوم فكيف يليق به ذلك ؟
الجواب : روي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى :﴿فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ (طه : ٤٤) وأنا أشهد أنه لا يتذكر ولا يخشى. فأمر الدعوة والبعثة شيء وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غير ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر.
السؤال الثالث : التذكير المأمور به هل مضبوط مثل أن يذكرهم عشرات مرات، أو غير مضبوط، وحينئذ كيف يكون الخروج عن عهدة التكليف ؟
والجواب : أن الضابط فيه هو العرف والله أعلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٥
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام منهم من قطع بصحته، ومنهم من جوز وجوده ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات، ومنهم من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون فالقسمان الأولان تكون الخشية حاصلة لهما، وأما القسم الثالث فلا خشية له ولا خوف إذا عرفت ذلك ظهر أن الآية تحتمل تفسيرين : أحدهما : أن يقال : الذي يخشى هو الذي يكون عارفاً بالله وعارفاً بكمال قدرته وعلمه وحكمته، وذلك يقتضي كونه قاطعاً بصحة المعاد / ولذلك قال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ (فاطر : ٢٨) فكأنه تعالى لما قال :﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ بين في هذه الآية أن الذي تنفعه الذكرى من هو، ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنياً على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها إلا الله سبحانه وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلاً للمقصود، فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير. الثاني : أن يقال : إن الخشية حاصلة للعاملين وللمتوقفين غير المعاندين وأكثر الخلق متوقفون غير معاندين والمعاند فيهم قليل، فإذا ضم إلى المتوقفين الذين لهم الغلبة العارفون كانت الغلبة العظيمة لغير المعاندين، ثم إن كثيراً من المعاندين، إنما يعاندون باللسان، فأما المعاند في قلبه بينه وبين نفسه فذلك مما لا يكون أو إن كان فهو في غاية الندرة والقلة، ثم إن الإنسان إذا سمع التخويف بأنه ﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ﴾ (الأعلى : ١٢) وأنه ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ﴾ (الأعلى : ١٣) انكسر قلبه فلا بد وأن يستمع وينتفع أغلب الخلق في أغلب الأحوال، وأما ذلك المعرض فنادر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فمن هذا الوجه كان قوله :﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ يوجب تعميم التذكير.
المسألة الثالثة : السين في قوله :﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ يحتمل أن تكون بمعنى سوف يذكر وسوف من الله واجب كقوله :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ﴾ (الأعلى : ٦) ويحتمل أن يكون المعنى أن من خشي الله فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر فهو بعد طول المدة يذكر، والله أعلم.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٥
المسألة الرابعة : العلم إنما يسمى تذكراً إذا كان قد حصل العلم أولاً ثم نسيه وهذه الحالة غير حاصلة للكفار فكيف سمى الله تعالى ذلك بالتذكر ؟
وجوابه : أن لقوة الدلائل وظهورها كأن ذلك العلم كان حاصلاً، ثم إنه زال بسبب التقليد والعناد. فلهذا أسماه الله تعالى بالتذكر.
المسألة الخامسة : قيل : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وقيل : نزلت في ابن أم مكتوم. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٦
فاعلم أنا بينا أن أقسام الخلق ثلاثة العارفون والمتوقفون والمعاندون، وبينا أن القسمين الأولين، لا بد وأن يكون لهما خوف وخشية، وصاحب الخشية لا بد وأن يستمع إلى الدعوة وينتفع بها، فيكون الأشقى هو المعاند الذي لا يستمع إلى الدعوة ولا ينتفع بها، فلهذا قال تعالى :﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الاشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير النار ﴿الْكُبْرَى﴾ وجوهاً أحدها : قال الحسن : الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا وثانيها : أن في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة كماأن في الدنيا ذنوباً ومعاصي متفاضلة، وكما أن الكافر أشقى العصاة كذلك يصلى أعظم النيران وثالثها :/ أن النار الكبرى هي النار السفلى، وهي تصيب الكفار على ما قال تعالى :﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ (النساء : ١٤٥).
المسألة الثانية : قالوا : نزلت هذه الآية في الوليد وعتبة وأبي، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا سيما وقد بينا صحة هذا الترتيب بالبرهان العقلي.


الصفحة التالية
Icon