المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إن الله تعالى ذكر ههنا قسمين أحدهما : الذي يذكر ويخشى والثاني : الأشقى الذي يصلى النار الكبرى، لكن وجود الأشقى يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم ؟
وجوابه : أن لفظة الأشقى لا تقتضي وجود الشقي إذ قد يجري مثل هذا اللفظ من غير مشاركة، كقوله تعالى :﴿أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ (الفرقان : ٢٤) وقيل : المعنى، ويتجنبها الشقي الذي يصلى كما في قوله :﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ﴾ (الروم : ٢٧) أي هين عليه، ومثل قول القائل :
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
هذا ما قيل لكن التحقيق ما ذكرنا أن الفرق الثلاثة، العارف والمتوقف والمعاند فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاء والأشقى هو المعاند الذي بينا أنه هو الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغى إليها ويتجنبها. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٦
١٣٦
ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : للمفسرين فيه وجهان : أحدهما : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه، كما قال :﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ﴾ (فاطر : ٣٦) وهذا على مذهب العرب تقول للمبتلي بالبلاء الشديد لا هو حي ولا هو ميت وثانيهما : معناه أن نفس أحدهم في النار تصير في حلقه فلا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.
المسألة الثانية : إنما قيل :﴿ثُمَّ﴾ لأن هذه الحالة أفظع وأعظم من الصلى فهو متراخ عنه في مراتب الشدة. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٦
١٣٧
ففيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك وثانيهما : وهو قول الزجاج : تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير، وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى :﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَـاشِعُونَ﴾ (المؤمنون : ٢، ١) أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال وكذلك قوله تعالى في أول البقرة :﴿وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (البقرة : ٥) وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين : الأول : أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية، وذلك هو الكفر، فعلمنا أن المراد ههنا :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية والثاني : أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل، وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه، ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى :﴿تَزَكَّى ﴾ قول : لا إله إلا الله. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٣٧
١٣٧
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر المفسرون فيه وجوهاً. أحدها : قال ابن عباس : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له. وأقول : هذا التفسير متعين وذلك لأن مراتب أعمال المكلف ثلاثة أولها : إزالة العقائد الفاسدة عن القلب وثانيها : استحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه وثالثها : الاشتغال بخدمته.
فالمرتبة الأولى : هي المراد بالتزكية في قوله :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ (الأعلى : ١٤).
وثانيها : هي المراد بقوله :﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه ﴾ فإن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة.
وثالثها : الخدمة وهي المراد بقوله :﴿فَصَلَّى ﴾ فإن الصلاة عبارة عن التواضع والخشوع فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله تعالى وكبريائه، لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع.


الصفحة التالية
Icon