المسألة الثانية : الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة، لأنه إما أن يقال : هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة، أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا، أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا أما الوجه الأول : وهو أنها بأسرها حاصلة في الآخرة فهو أن الكفار يكونون يوم القيامة خاشعين أي ذليلين، وذلك لأنها في الدنيا تكبرت عن عبادة الله، وعاملين لأنها تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال الثقيلة، على ما قال :﴿فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا﴾ (الحاقة : ٣٢) وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل بحيث ترتقي عنه تارة وتغوص فيه أخرى والتقحم في حر جهنم والوقوف عراة حفاة جياعاً عطاشاً في العرصات قبل دخول النار في يوم كان مقداره ألف سنة/ وناصبين لأنهم دائماً يكونون في ذلك العمل قال الحسن : هذه الصفات كان يجب أن تكون حاصلة في الدنيا لأجل الله تعالى، فلما لم تكن كذلك سلطها الله عليهم يوم القيامة على سبيل العقاب وأما الوجه الثاني : وهو أنها بأسرها حاصلة في الدنيا، فقيل : هم أصحاب الصوامع من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس، والمعنى أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب، وذلك لأنهم لما اعتقدوا في الله ما لا يليق به، فكأنهم أطاعوا ذاتاً موصوفة بالصفات التي تخيلوها فهم في الحقيقة ما عبدوا الله وإنما عبدوا ذلك المتخيل الذي لا وجود له، فلا جرم لا تنفعهم تلك العبادة أصلاً وأما الوجه الثالث : وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة وبعضها في الدنيا ففيه وجوه أحدها : أنها خاشعة في الآخرة، مع أنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة، والمعنى أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا، ولا يمتنع وصفهم ببعض أوصاف الآخرة، ثم يذكر بعض أوصاف الدنيا ثم يعاد ذكر الآخرة، إذا كان المعنى في ذلك مفهوماً فكأنه تعالى قال : وجوه يوم القيامة خاشعة، لأنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة في غير طاعة الله، فهي إذن تصلى ناراً حامية في الآخرة ثانيها : أنها خاشعة عاملة في الدنيا، ولكنها ناصبة في الآخرة، فخشوعها في الدنيا خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها، وعملها هو صلاتها وصومها ونصبها في الآخرة هو مقاساة العذاب على ما قال تعالى :﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ (الزمر : ٤٧) وقرىء عاملة ناصبة على الشتم، واعلم أنه تعالى بعد أن وصفهم بهذه الصفات الثلاثة شرح بعد ذلك كيفية مكانهم ومشربهم ومطعمهم نعوذ بالله منها.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤١
١٤١
أما مكانهم فقوله تعالى :﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ يقال : صلى بالنار يصلى أي لزمها واحترق بها / وقرىء بنصب التاء وحجته قوله :﴿إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافات : ١٦٣) وقرأ أبو عمرو وعاصم برفع التاء من أصيلته النار لقوله :﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ (الحاقة : ٣١) وقوله :﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ وصلوه مثل أصلوه، وقرأ قوم تصلى بالتشديد، وقيل : المصلى عند العرب، أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلاة أو في التنور، فلا يسمى مصلى. وقوله :﴿حَامِيَةً﴾ أي قد أوقدت، وأحميت المدة الطويلة، فلا حر يعدل حرها، قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤١
١٤١
وأما مشروبهم فقوله تعالى :﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ﴾ الآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخير. وفي الحديث :"أن رجلاً آخر حضور الجمعة ثم تخطى رقاب الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم : آنيت وآذيت" ونظير هذه الآية قوله :﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ﴾ (الرحمن : ٤٤) قال المفسرون : إن حرها بلغ إلى حيث لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٤١
١٤١
وأما مطعومهم فقوله تعالى :﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ﴾ واختلفوا في أن الضريع. ما هو على وجوه أحدها : قال الحسن : لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً وثانيها : روى عن الحسن أيضاً أنه قال : الضريع بمعنى المضرع كالأليم والسميع والبديع بمعنى المؤلم والمسمع والمبدع، ومعناه إلا من طعام يحملهم على أن يضرعوا ويذلوا عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرار وثالثها : أن الضريع ما يبس من الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل، قال أبو ذويب :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وعاد ضريعاً عاد عنه النحائص


الصفحة التالية
Icon