المسألة الثانية : قال الليث : اللم الجمع الشديد، ومنه كتيبة ملمومة وحجر ملموم، والآكل يلم الثريد فيجعله لقماً ثم يأكله ويقال لممت ما على الخوان ألمه أي أكلته أجمع، فمعنى اللم في اللغة الجمع، وأما التفسير ففيه وجوه أحدها : قال الواحدي والمفسرون : يقولون في قوله :﴿أَكْلا لَّمًّا﴾ أي شديداً وهو حل معنى وليس بتفسير، وتفسيره أن اللم مصدر جعل نعتاً للأكل، والمراد به الفاعل أي آكلاً لامّاً أي جائعاً كأنهم يستوعبونه بالأكل، قال الزجاج : كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافاً وبداراً، فقال الله :﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا﴾ أي تراث اليتامى لماً أي تلمون جميعه، وقال الحسن : أي يأكلون نصيبهم ونصيب صاحبهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم وثانيها : أن المال الذي يبقى من الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل أي يضم البعض إلى البعض ويأخذ الكل ويأكله وثالثها : قال صاحب "الكشاف" : ويجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً لماً واسعاً/ جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعله الوراث البطالون.
أما قوله تعالى :﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال : جم الشيء يجم جموماً يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر، والمعنى : ويحبون المال حباً كثيراً شديداً، فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦١
١٦١
اعلم أن قوله :﴿كَلا﴾ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا وقصر الهمة والجهاد على تحصيلها والاتكال عليها وترك المواساة منها وجمعها من حيث تتهيأ من حل أو حرام، وتوهم أن لا حساب ولا جزاء. فإن من كان هذا حاله يندم حين لا تنفعه الندامة ويتمنى أن لو كان أفنى عمره في التقرب بالأعمال الصالحة والمواساة من المال إلى الله تعالى، ثم بين أنه إذا جاء يوم موصوف بصفات ثلاثة فإنه يحصل ذلك التمني وتلك الندامة.
الصفة الأولى : من صفات ذلك اليوم قوله :﴿إِذَا دُكَّتِ الارْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ قال الخليل : الدك كسر الحائط والجبل والدكداك رمل متلبد، ورجل مدك شديد الوطء على الأرض، وقال المبرد : الدك حط المرتفع بالبسط واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وناقة دكاء إذا كانت كذلك ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش، فمعنى الدك على قول الخليل : كسر كل شيء على وجه الأرض من جبل أو شجر حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء، وعلى قول المبرد : معناه أنها استوت في الانفراش فذهبت دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحرة الملساء، وهذا معنى قول ابن عباس : تمد الأرض يوم القيامة.
واعلم أن التكرار في قوله :﴿دَكًّا دَكًّا﴾ معناه دكاً بعد دك كقولك حسبته باباً باباً وعلمته حرفاً حرفاً أي كرر عليها الدك حتى صارت هباءً منثوراً. واعلم أن هذا التدكدك لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة، فإذا زلزلت الأرض زلزلة بعد زلزلة وحركت تحريكاً بعد تحريك انكسرت الجبال التي عليها وانهدمت التلال وامتلأت الأغوار وصارت ملساء، وذلك عند انقضاض الدنيا وقد قال تعالى :﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ (النازعات : ٧، ٦) وقال :﴿وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ (الحاقة : ١٤) وقال :﴿إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾.
الصفة الثانية : من صفات ذلك اليوم قوله :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٦١
واعلم أنه ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله تعالى محال، لأن كل ما كان كذلك كان جسماً والجسم يستحيل أن يكون أزلياً فلا بد فيه من التأويل، وهو أن هذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ثم ذلك المضاف ما هو ؟
فيه وجوه أحدها : وجاء أمر ربك بالمحاسبة والمجازاة وثانيها : وجاء قهر ربك كما يقال جاءتنا بنو أمية أي قهرهم وثالثها : وجاء جلائل آيات ربك لأن هذا يكون يوم القيامة، وفي ذلك اليوم تظهر العظائم وجلائل الآيات، فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لشأن تلك الآيات ورابعها : وجاء ظهور ربك، وذلك لأن معرفة الله تصير في ذلك اليوم ضرورية فصار ذلك كظهوره وتجليه للخلق، فقيل :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ أي زالت الشبهة وارتفعت / الشكوك خامسها : أن هذا تمثيل لظهور آيات الله وتبيين آثار قهره وسلطانه، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه، فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة مالا يظهر بحضور عساكره كلها وسادسها : أن الرب هو المربى، ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربي للنبي صلى الله عليه وسلّم جاء فكان هو المراد من قوله :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾.


الصفحة التالية
Icon