فقالوا :﴿دَسَّـاـاهَا﴾ أصله دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت إحدى السينات ياء، فأصل دسى دسس، كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي، وكما قالوا : الببت والأصل لببت، وملبي والأصل ملبب، ثم نقول : أما / المعتزلة فذكروا وجوهاً توافق قولهم : أحدها : أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم، وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون، ويوقدون النيران بالليل للطارقين. وأما اللئام فإنهم يخفون أماكنهم عن الطالبين وثانيها :﴿خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا﴾ أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم وثالثها :﴿مَن دَسَّـاـاهَا﴾ في المعاصي حتى انغمس فيها ورابعها :﴿مَن دَسَّـاـاهَا﴾ من دس في نفسه الفجور، وذلك بسبب مواظبته عليها ومجالسته مع أهلها وخامسها : أن من أعرض عن الطاعات واشتغل بالمعاصي صار خاملاً متروكاً منسياً، فصار كالشيء المدسوس في الاختفاء والخمول. وأما أصحابنا فقالوا : المعنى خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى وأغواها وأفجرها وأبطلها وأهلكها، هذه ألفاظهم في تفسير ﴿دَسَّـاـاهَا﴾ قال الواحدي رحمه الله : فكأنه سبحانه أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره وخسار من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٧٩
١٨٠
أما قوله تعالى :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاـاهَآ﴾ قال الفراء : الطغيان والطغوى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برؤوس الآيات فاختير لذلك وهو كالدعوى من الدعاء وفي التفسير وجهان : أحدهما : أنها فعلت التكذيب بطغيانها، كما تقول : ظلمني بجراءته على الله تعالى، والمعنى أن طغيانهم حملهم على التكذيب به هذا هو القول المشهور والثاني : أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به، والمعنى كذبت بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب، وهذا لا يبعد لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة القدر المعتاد فيجوز أن يسمى العذاب الذي جاءهم طغوى لأنه كان صيحة مجاوزة للقدر المعتاد أو يكون التقدير كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى ويدل على هذا التأويل قوله تعالى :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادُا بِالْقَارِعَةِ﴾ (الحاقة : ٤) أي بالعذاب الذي حل بها، ثم قال :﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ (الحاقة : ٥) فسمى ما أهلكوا به من العذاب طاغية.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٨٠
١٨١
انبعث مطاوع بعث يقال : بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له، والمعنى أنه كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاها وهو عاقر الناقة وفيه قولان : أحدهما : أنه شخص معين واسمه قدار بن سالف ويضرب به المثل يقال : أشأم من قدار، وهو أشقى الأولين بفتوى رسول الله صلى الله عليه وسلّم والثاني : يجوز أن يكونوا جماعة، وإنما جاء على لفظ الوحدان لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تقول : هذان أفضل الناس وهؤلاء أفضلهم، وهذا يتأكد بقوله :﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾ (الشمس : ١٤) وكان يجوز أن يقال أشقوها كما يقال أفاضلهم. أما قوله تعالى :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٨١
١٨١
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الرسول صالح عليه السلام ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ أي أنه أشار إليه لما هموا بعقرها وبلغه ما عزموا عليه، وقال لهم هي :﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ وآيته الدالة على توحيده وعلى نبوتي، فاحذروا أن تقوموا عليها بسوء، واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سقياها، وقد بينا في مواضع من هذا الكتاب أنه كان لها شرب يوم ولهم ولمواشيهم شرب يوم، وكانوا يستضرون بذلك في أمر مواشيهم، فهموا بعقرها، وكان صالح عليه السلام يحذرهم حالاً بعد حال من عذاب ينزل بهم إن أقدموا على ذلك، وكانت هذه الحالة متصورة في نفوسهم، فاقتصر على أن قال لهم :﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَـاهَا﴾ لأن هذه الإشارة كافية مع الأمور المتقدمة التي ذكرناها.
المسألة الثانية :﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ نصب على التحذير، كقولك الأسد الأسد، والصبي الصبي بإضمار ذروا عقرها واحذروا سقياها، فلا تمنعوها عنها، ولا تستأثروا بها عليها.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٨١
١٨١
ثم بين تعالى أن القوم لم يمتنعوا عن تكذيب صالح، وعن عقر الناقة بسبب العذاب الذي أنذرهم الله تعالى به وهو المراد بقوله :﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾ ثم يجوز أن يكون المباشر للعقر واحداً وهو قدار، فيضاف الفعل إليه بالمباشرة، كما قال :﴿فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ ويضاف الفعل إلى الجماعة لرضاهم بما فعل ذلك الواحد. قال قتادة : ذكر لنا أنه أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم، وهو قول أكثر المفسرين. وقال الفراء : قيل إنهما كانا إثنين.


الصفحة التالية
Icon