المسألة الأولى : قال أبو عبيدة والمبرد : ودعك من التوديع كما يودع المفارق، وقرىء بالتخفيف أي ما تركك، والتوديع مبالغة في الوداع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والقلى البغض. يقال : قلاة يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه، قال الفراء : يريد وما قلاك، وفي حذف الكاف وجوه أحدها : حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك، ولأن رؤس الآيات بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف وثانيها : فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا (فلا) أحد من أصحابك. ولا أحداً ممن أحبك إلى قيام القيامة، تقريراً لقوله :"المرء مع من أحب".
المسألة الثانية : قال المفسرون : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم. فقال المشركون : قد قلاه الله وودعه، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية، وقال السدي : أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت : لعل رنك نسيك أو قلاك، وقيل : إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، وروي عن الحسن أنه قال : أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلّم الوحي، فقال لخديجة :"إن ربي ودعني وقلاني، يشكو إليها، فقالت : كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك" فنزل :﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ وطعن الأصوليون في هذه الرواية، وقالوا : إنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلّم أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه، بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى، ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة، وربما كان الصلاح تأخيره، وربما كان خلاف ذلك، فثبت أن هذا / الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها، أو ليعرف الناس قدر علمها، واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي، فقال ابن جريج : اثنا عشر يوماً، وقال الكلبي : خمسة عشر يوماً، وقال ابن عباس : خمسة وعشرون يوماً، وقال السدي ومقاتل : أربعون يوماً، واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام، فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فقال :"سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله" فاحتبس عنه الوحي، وقال ابن زيد : السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين، فلما نزل جبريل عليه السلام، عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال :"أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة" وقال جندب بن سفيان : رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه، فقال :
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩٧
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فأبطأ عنه الوحي، وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وههنا سؤالان.
السؤال الأول : الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى :﴿قُلْنَا﴾ أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركاً للأفضل والأولى، وصاحبه لا يكون ممقوتاً ولا مبغضاً، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل :"ما جثتني حتى اشتقت إليك، فقال جبريل : كنت إليك أشوق ولكني عبداً مأموراً" وتلا :﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ (مريم : ٦٤).
السؤال الثاني : كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده : إني لا أبغضك تشريفاً له ؟
الجواب : أن ذلك لا يحسن ابتداء، لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه، ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له : إني لا أبغضك ولا أدعك، وسوف ترى منزلتك عندي.
المسألة الثالثة : هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله، إذ لو كان من عنده لما امتنع.
جزء : ٣١ رقم الصفحة : ١٩٧
١٩٩
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوهاً أحدها : أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة، بل أقصى ما في الباب، أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة، وذلك أمارة الموت فكأنه يقال : انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت، لكن الموت خير لك. فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا وثانيها : لما نزل :﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ (الضحى : ٣) حصل له بهذا تشريف عظيم، فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له :﴿وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى ﴾ أي هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم وثالثها : ما يخطر / ببالي، وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز، ومنصباً إلى منصب، فيقول : لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصباً وجلالاً، وههنا سؤالان :


الصفحة التالية
Icon