المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون قوله :﴿الَّذِى خَلَقَ﴾ لا يقدر له مفعول، ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه والثاني : أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي، كقولنا : الله أكبر، أي من كل شيء، ثم قوله بعد ذلك :﴿خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض والثالث : أن يكون قوله :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ﴾ مبهماً ثم فسره بقوله :﴿خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى، قالوا : لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات، وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، قالوا : وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن فرعون لما طلب حقيقة الإله، فقال :﴿وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ قال موسى :﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ﴾ والربوبية إشارة إلى الخلالقية التي ذكرها ههنا، وكل ذلك يدل على قولنا.
المسألة الثالثة : اتفق المتكلمون على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى، أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم، ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين، لو قال له : اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له، لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى إن زفر لما بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه، فلما ذكر أبو حنيفة زيفوه ولم يلتفتوا إليه، فرجع إلى أبي حنيفة. وأخبره بذلك، فقال إنك لم تعرف طريق التبليغ، لكن ارجع إليهم، واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها، ثم قل بعد ذلك : ههنا قول آخر، واذكر قولي وحجتي، فإذا تمكن ذلك في قلبهم، فقل : هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون، فكذا ههنا أن الحق سبحانه يقول : إن هؤلاء عباد الأوثان، فلو أثنيت علي وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك، لكن اذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره، ثم قل : ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان، كما قال تعالى :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾ ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلهاً، فلهذا قال تعالى :﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ ﴾ ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل، لأن المؤثر فيه إن كان حادثاً افتقر إلى مؤثر آخر، وإن كان قديماً فإما أن يكون موجباً / أو قادراً، فإن كان موجباً لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢٠
المسألة الرابعة : إنما قال :﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله :﴿إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢٠
٢٢١
أما قوله تعالى :﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : اقرأ أولاً لنفسك، والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم. أو قرأ في صلاتك، والثاني خارج صلاتك.
المسألة الثانية : الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم، ومن أعطى ثم طلب عوضاً فهو ليس بكريم، وليس يجب أن يكون العوض عيناً بل المدح والثواب والتلخص عن المذمة كله عوض، ولهذا قال أصحابنا : إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلاً لغرض لأنه لو فعل فعلاً لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله، فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية، ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية، فيكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره وذلك محال، ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوهاً أحدها : أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية، لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية، وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية، ومنه قول القائل :
متى زدت تقصيراً تزد لي تفضلاً


الصفحة التالية
Icon