المسألة الثالثة : قال :﴿يَنْهَى * عَبْدًا﴾ ولم يقل : ينهاك، وفيه فوائد أحدها : أن التنكير في عبداً يدل على كونه كاملاً في العبودية، كأنه يقول : إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في / عبوديته يروى : في هذا المعنى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال : أخبرني عن أخلاق رسولكم، فقال عمر : اطلبه من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالاً دله على فاطمة ثم قاطمة دلته على علي عليه السلام، فلما سأل علياً عنه قال : صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه، فقال الرجل : هذا لا يتيسر لي، فقال علي : عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال :﴿قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ فكيف أصف أخلاق النبي وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال :﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فكأنه تعالى قال : ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق وثانيها : أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى وثالثها : أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة، روى عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد، فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعل ذلك، فقيل له : ألا تنهاهم ؟
فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله :﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى ﴾ فلم يصرح بالنهي عن الصلاة، وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو يوسف : أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع : اللهم اغفر لي ؟
قال : يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ورابعها : أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجداً غيره، إن محمد عد واحد، ولي من الملائكة المقربين مالا يحصيهم إلا أنا وهم دائماً في الصلاة والتسبيح وخامسها : أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول : إنه مع التنكير معرف، نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر ﴿أَسْرَى بِعَبْدِه ﴾ ﴿أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ ﴿وَأَنَّه لَمَّا قَامَ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢٣
٢٢٦
ثم قال تعالى :﴿أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿أَرَءَيْتَ﴾ خطاب لمن ؟
فيه وجهان الأول : أنه خطاب للنبي عليه السلام، والدليل عليه أن الأول وهو قوله :﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا﴾ للنبي صلى الله عليه وسلّم والثالث وهو قوله :﴿أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ للنبي عليه الصلاة والسلام فلو جعلنا الوسط لغير النبي لخرج الكلام عن النظم الحسن، يقول الله تعالى يا محمد : أرأيت إن كان هذا الكافر، ولم يقل : لو كان إشارة إلى المستقبل كأنه يقول : أرأيت إن صار على الهدى، واشتغل بأمر نفسه، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة، فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن خدمته وطاعته، كأنه تعالى يقول : تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية وقنع بالمراتب الدنيئة.
القول الثاني : أنه خطاب للكافر، لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم، وكالمولى الذي قام بين يديه عبدان، وكالحاكم الذي حضر عنده المدعى، والمدعى عليه فخاطب هذا مرة، وهذا / مرة. فلما قال للنبي :﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى ﴾ التفت بعد ذلك إلى الكافر، فقال : أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك.
المسألة الثانية : ههنا سؤال وهو أن المذكور في أول الآية. هو الصلاة وهو قوله :﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى ﴾ والمذكور ههنا أمران، وهو قوله :﴿أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى ﴾ في فعل الصلاة، فلم ضم إليه شيئاً ثانياً، وهو قوله :﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾ ؟
جوابه : من وجوه أحدها : أن الذي شق على أبي جهل من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هو هذان الأمران الصلاة والدعاء إلى الله، فلا جرم ذكرهما ههنا وثانيها : أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يوجد إلا في أحد أمرين، إما في إصلاح نفسه، وذلك بفعل الصلاة أو في إصلاح غيره، وذلك بالأمر بالتقوى وثالثها : أنه عليه السلام كان في صلاته على الهدى وآمراً بالتقوى، لأن كل من رآه وهو في الصلاة كان يرق قلبه. فيميل إلى الإيمان، فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل، وهو أقوى من الدعوة بلسان القول.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٢٦
٢٢٨
ثم قال تعالى :﴿أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ وفيه قولان.


الصفحة التالية
Icon