المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"أجرك على قدر نصبك" ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أضق من الطاعة في ليلة واحدة، فكيف يعقل استواؤهما ؟
والجواب : من وجوه : أحدها : أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه/ ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة، مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة، وأيضاً / فأنت تقول لمن يرجم : إنه إنما يرجم إنه زان فهو قول حسن، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز، ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد، فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع، مع أن الصورة واحدة في الكل، بل لو قلته في حق عائشة كان كفراً، ولذلك قال :﴿وَتَحْسَبُونَه هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ وذلك لأن هذا طعن في حق عائشة التي كانت رحلة في العلم، لقوله عليه السلام :"خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء" وطعن في صفوان مع أنه كان رجلاً بدرياً، وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين، وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافراً، بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق الله غيره، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية، ثم القائل بقوله : هذا زان، فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال، فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني : في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين، فقال :﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ومرة عشراً، ومرة سبعمائة، وتارة بحسب الأزمنة، وتارة بحسب الأمكنة، والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا، فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد، وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور، وتارة يفضل الجمعة على سائر الأيام، وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي، والمقصود ما ذكرناه الوجه الثاني : من فضائل هذه الليلة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٣٧
٢٤١
قوله تعالى :﴿تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح، ونظر البشر على الأشباح، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلاً للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك. فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منياً وعلقة ما قبلوك أيضاً، بل أظهروا النفرة، واستقذروا ذلك المني والعلقة، وغسلوا ثيابهم عنه، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولاً، فهذا هو المراد من قوله :﴿تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم :﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾.
المسألة الثانية : أن قوله تعالى :﴿تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة، ثم / الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض، فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم : إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا، فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السما مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك، فكيف تسع الجميع سماء واحدة ؟
قلنا : يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد، كيف والمروي إنهم ينزلون فوجاً فوجاً فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ :﴿تَنَزَّلُ﴾ الذي يفيد المرة بعد المرة.
والقول الثاني : وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه، لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة، ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى، ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض، ثم اختلف من قال : ينزلون إلى الأرض على وجوه : أحدها : قال بعضهم : ينزلون ليروا عبادة البشر وحدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها : أن الملائكة قالوا :﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٤١


الصفحة التالية
Icon