وأما هذه الآية وهو قوله :﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم﴾ فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولاً فأذنوا، وذلك يدل على غاية المحبة، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا. لكن كانوا ينتظرون الإذن، فإن قيل قوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ﴾ ينافي قوله :﴿تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين وثالثها : أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة :﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم﴾ فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة، روى عن علي عليه السلام :"أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه" ورابعها : أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثواباً، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثواباً، وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها : أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة/ فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها : أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة، عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها، ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبريل لا يدع أحداً من الناس إلا صافحهم، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه، فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام، من قال فيها ثلاث مرات : لا إله إلا الله غفر له بواحدة، ونجاه من النار بواحدة، وأدخله الجنة بواحدة، وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكاً ملكاً، فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام، فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتساباً، فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقاً حلقاً فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة، حتى يقولوا : ما فعل فلان وكيف وجدتموه ؟
فيقولون : وجدناه عام أول متعبداً، وفي هذا العام مبتدعاً، وفلان كان عام أول مبتدعاً، وهذا العام متعبداً، فيكفون عن الدعاء للأول، ويشتغلون بالدعاء للثاني، ووجدنا فلاناً تالياً، وفلاناً راكعاً، وفلاناً ساجداً، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة. فتقول لهم السدرة : يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقاً، وإني أحب من أحب الله، فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة، فتقول الجنة : اللهم عجلهم إلي، والملائكة، وأهل السدرة يقولون : آمين آمين، إذا عرفت هذا فنقول، كلما كان الجمع أعظم، كان نزول الرحمة هناك أكثر، ولذلك فإن أعظم الجموع في موثق الحج، لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر، فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين، فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٤١
المسألة الثالثة : ذكروا في الروح أقوالاً أحدها : أنه ملك عظيم، لو التقم السموات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة وثانيها : طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد وثالثها : خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة، ولا من الإنس، ولعلهم خدم أهل الجنة ورابعها : يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه، ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد وخامسها : أنه القرآن :﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ وسادسها : الرحمة قرىء :﴿يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ﴾ بالرفع كأنه تعالى، يقول : الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسابعها : الروح أشرف الملائكة وثامنها : عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح، والأصح أن الروح ههنا جبريل. وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة.


الصفحة التالية
Icon