المسألة الأولى : اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقاً من المحن والآفات، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكياً لا للفراق ولكن مشتكياً من وحشة الحبس ليرحم، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدوداً في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم، ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف، ثم إن المكلف يصير كالمتحير، يقول : من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل، فوجده عالماً لا يشبه العالمين، وقادراً لا يشبه القادرين، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة، فترك الشكاية وأقبل على الشكر، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة، فجعل قلبه مسكناً لسطان عرفانه، فكأن الحق قال : عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى / لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد : يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته، وكذا حب الأب والأم، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل. أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح، فيقول الله : عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة، فلهذا قال :﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانْهَـارُ﴾ بل كأن الكريم الرحيم يقول : عبدي أعطاني كل ما ملكه، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي، وأنا أولى منه بالكرم والجود، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوباً دائماً مخلداً، حتى يكون دوامه وخلوده جابراً لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٥
المسألة الثانية : الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء، فهذا يفيد معنيين أحدهما : أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني : أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلاً، على ما قال :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾.
المسألة الثانية : قال :﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ فأضاف الجزاء إليهم، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله :﴿الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه ﴾ والجواب : أما أهل السنة فإنهم يقولون : إنه لو قال الملك الكريم : من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي، فقوله :﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا : في قوله تعالى :﴿الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه ﴾ إن كلمة من لابتداء الغاية/ فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة. فإن قيل : فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم، فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام ؟
قلنا : أتسأل عن إنعامه الأمسى حال عدمنا ؟
أو عن إنعامه اليومي حال التكليف ؟
أو عن إنعامه في غد القيامة ؟
فإن سألت عن الأمسى فكأنه يقول : أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه، كما روى :"الخلق عيال الله" وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع. فالرحمن أولى. وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.
المسألة الرابعة : في قوله :﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ لطائف :
أحدها : قال بعض الفقهاء : لو قال : لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معاً، إذا عرفت هذا فقوله :﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يفيد أنه وديعة والوديعة عين، ولو قال : لفلان على فهو إقرار بالدين، والعين أشرف من الدين فقوله :﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد، فإن قيل : الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون، قلنا : المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال، فلا جرم قلنا : الوديعة هناك خير من المضمون.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٥٥


الصفحة التالية
Icon