فاعلم أن الإيراء إخراج النار، والقدح الصك تقول : قدح فأورى وقد فأصلد، ثم في تفسير الآية وجوه أحدها : قال ابن عباس : يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزبد إذا قدح، وقال مقاتل : يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة ناراً كنار الحباحب والحباحب اسم رجل كان بخيلاً لا يوقد النار إلا إذا نام الناس، فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد. فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول : إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار، والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد وثالثها : قال قوم : هذه الآيات في الخيل، ولكن إبراؤها أن تهبج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم، كما قال تعالى :﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه ﴾ ومنه يقال للحرب إذا التحمت : حمى الوطيس وثالثها : هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم ﴿فَالمُورِيَـاتِ﴾ هم الجماعة من الغزاة ورابعها : إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به وخامسها : هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة، روى ذلك عن ابن عباس، ويقال : لأقدحن لك ثم لأورين لك، أي لأهيجن عليك شراً وحرباً، وقيل : هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيراً، ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيراناً كثيرة، لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيراً وسادسها : قال عكرمة : الموريات قدحاً الأسنة وسابعها :﴿فَالمُورِيَـاتِ قَدْحًا﴾ أي فالمنجحات أمراً، يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج، ويقال للمنجح في حاجته : وروى زنده، ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة، ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير :
وجدنا الأزد أكرمهم جوادا
وأوراهم إذا قدحوا زناداً
ويقال : فلان إذا قدح أورى، وإذا منح أورى، واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار، وفي غيره مجاز، ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦١
٢٦٢
أما قوله تعالى :﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح، وكانوا يغيرون صباحاً لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئاً، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد. وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل، قالوا : المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسنة أن لا تغير حتى تصبح، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع، يقال : أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول : أشرق ثبير كيما نغير. أي نسرع في الإفاضة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٢
٢٦٣
أما قوله :﴿فَأَثَرْنَ بِه نَقْعًا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في النقع قولان : أحدهما : أنا هو الغبار وقيل : إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع، فالغبار يسمى نقعاً لارتفاعه، وقيل : هو من النقع في الماء، فكأن صاحب الغبار غاص فيه، كما يغوص الرجل في الماء والثاني : النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام :"مالم يكن نقع ولا لقلقة" أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح، وارتفعت أصواتهن، ويقال : ثار الغبار والدخان، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه، وأثرن الغبار أي هيجنه، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : به إلى ماذا يعود ؟
فيه وجوه أحدها : وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه، والموضع الذي تقع فيه الإغارة، لأن في قوله :﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من وضع، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وثانيها : إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة، أي فأثرن في ذلك الوقت نقعاً وثالثها : وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو، أي فأثرن بالعدو نقعاً، وقد تقدم ذكر العدو في قوله :﴿وَالْعَـادِيَـاتِ﴾.
المسألة الثالثة : فإن قيل : على أي شيء عطف قوله :﴿فَأَثَرْنَ﴾ قلنا : على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، والتقدير واللائي عدون فأورين، وأغرن فأثرن.
المسألة الرابعة : قرأ أبو حيوة :﴿فَأَثَرْنَ﴾ بالتشديد بمعنى فأظهرن به غباراً، لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٣
٢٦٣
أما قوله تعالى :﴿فَوَسَطْنَ بِه جَمْعًا﴾ ففيه مسألتان :