المسألة الأولى : قال الليث : وسطت النهر والمفازة أسطها وسطاً وسطة، أي صرت في وسطها، وكذلك وسطتها وتوسطتها، ونحو هذا، قال الفراء : والضمير في قوله :﴿بِه ﴾ إلى ماذا يرجع فيه وجوه أحدها : قال مقاتل : أي بالعدو، وذلك أن العاديات تدل على العدو، فجازت الكناية عنه، وقوله :﴿جَمْعًا﴾ يعني جمع العدو، والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو، ومن حمل الآيات على الإبل، قال : يعني جمع مني وثانيها : أن الضمير عائد إلى النقع أي : بالنقع الجمع وثالثها : المراد أن العاديات وسطن ملبساً بالنقع جمعاً من جموع الأعداء.
المسألة الثانية : قرىء :﴿نَقْعًا * فَوَسَطْنَ﴾ بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد كقوله :﴿وَأُتُوا بِه ﴾ وهي مبالغة في وسطن، واعلم أن الناس أكثروا في صفة الفرس، وهذا القدر الذي ذكره الله أحسن، وقال عليه الصلاة والسلام :"الخيل معقود بنواصيها الخير"، وقال أيضاً :"ظهرها حرز / وبطنها كنز" واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به، ذكر المقسم عليه وهو أمور ثلاثة :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٣
٢٦٥
أحدها : قوله :﴿إِنَّ الانسَـانَ لِرَبِّه لَكَنُودٌ﴾ قال الواحدي : أصل الكنود منع الحق والخير والكنود الذي يمنع ما عليه، والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئاً ثم للمفسرين عبارات، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة : الكنود هو الكفور قالوا : ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه، وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل، وبلسان مضر وربيعة الكفور، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن : هو الكفور الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده، وقال الحسن : اللوام لربه يعد المحن والمصائب، وينسى النعم والراحات، وهو كقوله :﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه فَيَقُولُ رَبِّى أَهَـانَنِ﴾.
واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس، فلا بد من صرفه إلى كافر معين، أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقيه من ذلك، والأول قول الأكثرين قالوا : لأن ابن عباس قال : إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وأيضاً فقوله :﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ﴾ لا يليق إلا بالكافر، لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر.
الثاني : من الأمور التي أقسم الله عليها قوله :﴿وَإِنَّه عَلَى ذَالِكَ لَشَهِيدٌ﴾ وفيه قولان : أحدهما : أن الإنسان على ذلك أي على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك، أما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده، أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه القول الثاني : المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا : وهذا أولى لأن للضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عين المعاصي من حيث إنه يحصى عليه أعماله، وأما الناصرون للقول الأل فقالوا : إن قوله بعد ذلك :﴿وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ الضمير فيه عائد إلى الإنسان، فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائداً إلى الإنسان ليكون النظم أحسن.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٥
الأمر الثالث : مما أقسم الله عليه قوله :﴿وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ الخير المال من قوله تعالى :﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ وقوله :﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ وهذالأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيراً كما أنه تعالى سمي ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءاً في قوله :﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ﴾ والشديد البخيل الممسك، يقال : فلان شديدة ومتشدد، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ثم في التفسيري وجوه أحدها : أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك وثانيها : أن يكون المراد من الشديدة القرى، ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف، تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له، وإذا كان مطيقاً له ضابطاً وثالثها : أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض ورابعها : قال الفراء : يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال، ويحب كونه محباً له، إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني، كما قال :﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وخامسها : قال قطرب : أي إنه شديد حب الخير، كقولك إنه لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٦٥
٢٦٥
واعلم أنه تعالى لما عد عليه قبائح أفعاله خوفه، فقال :﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ﴾ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon