وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية، إذا عرفت هذا فنقول : العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات، والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل، فيكون ذلك ترجيحاً لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها، وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق، فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال :﴿أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش، وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٧٧
المسألة الثالثة : قوله :﴿أَلْهَـاـاكُمُ﴾ يحتمل أن يكون إخباراً عنهم، ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ والتقويع أي أألهاكم، كما قرىء أنذرتهم وأأنذرتهم، وإذا كنا عظاماً وأئذا كنا عظاماً.
المسألة الرابعة : الآية دلت على أن التكاثر والتفاخر مذموم والعقل دل على إن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم، ومن ذلك ما روى من تفاخر العباس بأن السقاية بيده، وتفاخر شيبة بأن المفتاح بيده إلى أن قال علي عليه السلام : وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة فأسلمتم فشق ذلك عليهم فنزل قوله تعالى :﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ﴾ الآية وذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته ومحاسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به، فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم، بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة، هو المحمود، وهو أصل الخيرات، فالألف واللام في التكاثر ليسا للاستغراق، بل للمعهود السابق، وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها، فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته، ولما كان ذلك مقرراً في العقول ومتفقاً عليه في الأديان، لا جرم حسن إدخال حرف التعريف عليه.
المسألة الخامسة : في تفسير الآية وجوه أحدها :﴿أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ بالعدد روى أنها نزلت في بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر فكان بنو عبد مناف أكثر فقال : بنو سهم عدواً مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم، ففعلوا فزاد بنو سهم، فنزلت الآية وهذه الرواية مطابقة لظاهر القرآن، لأن قوله :﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ يدل على أنه أمر مضى. فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم، ويقول هب أنكم أكثر منهم عدداً فماذا ينفع، والزيارة إتيان الموضع، وذلك يكون لأغراض كثيرة، وأهمها وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا / فإن مشاهدة القبور تورث ذلك على ما قال عليه السلام :"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة" ثم إنكم زرتم القبور، بسبب قساوة القلب والاستغراق في حب الدنيا فلما انعكست هذه القضية، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك في معرض التعجيب.
والقول الثاني : أن المراد هو التكاثر بالمال واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، أنه عليه السلام كان يقرأ :﴿أَلْهَـاـاكُمُ﴾ وقال ابن آدم : يقول مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنبت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، والمراد من قوله :﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ أي حتى متم وزيارة القبر عبارة عن الموت، يقال لمن مات : زار قبره وزار رمسه، قال جرير للأخطل :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٧٧
زار القبور أبو مالك
فأصبح ألأم زوارها أي مات فيكون معنى الآية : ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك، يقال حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين الأول : أن الزائر هو الذي يزور ساعة ثم ينصرف، والميت يبقى في قبره، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟
والثاني : أن قوله :﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل ؟
والجواب : عن السؤال الأول أنه قد يمكث الزائر، لكن لا بد له من الرحيل، وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب والجواب : عن السؤال الثاني من وجوه أحدها : يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفاً على الموت بسبب الكبر، ولذلك يقال فيه : إنه على شفير القبر وثانيها : أن الخبر عمن تقدمهم وعظاً لهم، فهو كالخبر عنهم، لأنهم كانوا على طريقتهم، ومنه قوله تعالى :﴿وَيَقْتُلُونَ﴾ وثالثها : قال أبو مسلم : إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار، وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور.
القول الثالث :﴿أَلْهَـاـاكُمُ﴾ الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت، ثم تقول في تلك الحالة : أوصيت لأجل الزكاة بكذا، ولأجل الحج بكذا.


الصفحة التالية
Icon