المسألة الثانية : الهمز الكسر قال تعالى :﴿هَمَّازٍ مَّشَّآء ﴾ واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم، قال تعالى :﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة، وقرىء :﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظاً أحدها : قال ابن عباس : الهمزة المغتاب، واللمزة العياب وثانيها : قال أبو زيد : الهمزة باليد واللمزة / باللسان وثالثها : قال أبو العالية : الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها : الهمزة جهراً واللمزة سراً بالحاجب والعين وخامسها : الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك، لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا. وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي صلى الله عليه وسلّم فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها : قال الحسن : الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها : عن أبي الجوزاء قال : قلت لابن عباس :﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ من هؤلاء الذين يذمهم الله بالويل فقال : هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ثم هذا على قسمين فإنه إما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد، وإما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك، وكل واحد من القسمين، إما أن يكون في أمر يتعلق بالدين، وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي، أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة، ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر، وقد يكون لغائب، وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ، وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما/ وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر، إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا، فما كان اللفظ موضوعاً له كان منهياً بحسب اللفظ، ومالم يكن اللفظ موضوعاً له كان داخلاً تحت النهي بحسب القياس الجلي، ولما كان الرسول أعظم الناس منصباً في الدين كان الطعن فيه عظيماً عند الله، فلا جرم قال :﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
٢٨٦
ثم قال تعالى :﴿الَّذِى جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَه ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :﴿الَّذِى﴾ بدل من كل أو نصب على ذم، وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي وابن عامر جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف والمعنى في جمع وجمع واحد متقارب، والفرق أن ﴿جَمَعَ﴾ بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا، وأنه لم يجمعه في يوم واحد، ولا في يومين، ولا في شهر ولا في شهرين، يقال : فلان يجمع الأموال أي يجمعها من ههنا وههنا، وأما جمع بالتخفيف، فلا يفيد ذلك، وأما قوله :﴿مَالا﴾ فالتنكير فيه يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال : المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال :﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير، فكيف يليق به أن يفتخر بذلك / القليل والثاني : أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات. فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به ؟
أما قوله :﴿وَعَدَّدَه ﴾ ففيه وجوه أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال : أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر وثانيها : عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال : فلان يعدد فضائل فلان، ولهذا قال السدي : وعدده أي أحصاه يقول : هذا لي وهذا لي يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه وثالثها : عدده أي كثره يقال : في بني فلان عدد أي كثرة، وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معي العدد، والقول الثالث إلى معنى العدة، وقرأ بعضهم وعدده بالتخفيف وفيه وجهان أحدهما : أن يكون المعنى جمع المال وضبط عدده وأحصاه وثانيهما : جمع ماله وعدد قومه الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والرجل متى كان كذلك كان أدخل في التفاخر.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
٢٨٦
ثم وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل فقال :﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَه ا أَخْلَدَه ﴾.