البحث الثاني : فيما يتعلق بهذا القول بيان : أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سبباً لإيلاف قريش ؟
فنقول : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى :﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ﴾ إلى قوله :﴿فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحتلين، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم، ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة، لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفسهم وأموالهم، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر، فلهذا قال الله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ﴾ ﴿لايلَـافِ قُرَيْشٍ * إِالَـافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ﴾. والوجه الثاني : فيما يدل على صحة هذا القول أن قوله تعالى في آخر هذه السورة :﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِى ﴾ إشارة إلى أول سورة الفيل، كأنه قال : فليعبدوا رب هذا البيت، الذي قصده أصحاب الفيل، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتباً على إيصال المنفعة، فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٠١
القول الثاني : وهو أن اللام في :﴿لايلَـافِ﴾ متعلقة بقوله :﴿فَلْيَعْبُدُوا ﴾ وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت، لإيلاف قريش. أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها، فإن قيل : فلم دخلت الفاء في قوله :﴿فَلْيَعْبُدُوا ﴾ ؟
قلنا : لما في الكلام من معنى الشرط، وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة.
القول الثالث : أن تكون هذه اللام غير متعلقة، لا بما قبلها ولا بما بعدها، قال الزجاج : قال قوم : هذه اللام لام التعجب، كأن المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غياً وجهلاً وانغماساً في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم، وينظم أسباب معايشهم، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه، ونظيره في اللغة قولك لزيد وما صنعنا به. ولزيد وكرامتنا إياه. وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء.
المسألة الثانية : ذكروا في الإيلاف ثلاثة أوجه أحدها : أن الإيلاف هو الإلف قال علماء اللغة : ألفت الشيء وألفته إلفاً وإلافاً وإيلافاً بمعنى واحد، أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا، وقرأ أبو جعفر : لإلف قريش. وقرأ الآخرون لإلاف قريش، وقرأ عكرمة ليلاف قريش وثانيها : أن يكون هذا من قولك : لزمت موضع كذا وألزمنيه الله، كذا تقول : ألفت كذا، وألفنيه الله ويكون المعنى إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف ألف بنفسه إلفاً وآلفه غيره إيلافاً، والمعنى أن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله وهو كقوله :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ وقال :﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا﴾ وقد تكون المسرة سبباً للمؤانسة والاتفاق، كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش، فيكون المصدر ههنا مضافاً إلى المفعول/ ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشاً ملازمين لرحلتيهم وثالثها : أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء وابن الأعرابي : فيكون المصدر على هذا القول مضافاً إلى الفاعل، والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا، وقرأ أبو جعفر ليلاف بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفاً كلياً وهو كمذهبه في يستهزءون وقد مر تقريره.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٠١


الصفحة التالية
Icon