والفتح دون النصر كأجلاء بني النضير، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم، أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم القول الثاني : أن المراد فتح خيبر، وكان ذلك على يد علي عليه السلام، والقصة مشهورة، روى أن أستصحب خالد بن الوليد، وكان يساميه في الشجاعة، فلما نصب السلم قال لخالد : أتتقدم ؟
قال : لا، فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت ؟
فقال : لا أدري لشدة الخوف، وروى أنه قال : لعلي عليه السلام ألا تصارعني، فقال : ألست صرعتك ؟
فقال : نعم لكن ذاك قبل إسلامي، ولعل علياً عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي/ أو كان علي يقول صرعتك حين كنت كافراً، أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك القول الثالث : أنه فتح الطائف وقصته طويلة والقول الرابع : المراد النصر على الكفار، وفتح بلاد الشرك على الإطلاق، وهو قول أبي مسلم والقول الخامس : أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم، ومنه قوله :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٩
﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ لكن حصول العلم لا بد وأن يكون مسبوقاً بانشراح الصدر وصفاء القلب، وذلك هو المراد من قوله :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات، والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات.
المسألة الثانية : إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان : أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان، ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروى أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً، ولذلك سميت سورة التوديع والقول الثاني : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ وقوله :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع : إذا جاء وإذا وقع، وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له، والإخبار عن الغيب معجز فإن قيل : لم ذكر النصر مضافاً إلى الله تعالى، وذكر الفتح بالألف واللام ؟
الجواب : الأولف واللام للمعهود السابق، فينصرف إلى فتح مكة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٩
٣٥١
قوله تعالى :﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : رأيت يحتمل أن يكون معناه أبصرت، وأن يكون معناه علمت، فإن كان معناه أبصرت كان يدخلون في محل النصب على الحال، والتقدير : ورأيت الناس حال دخولهم / في دين الله أفواجاً، وإن كان معناه علمت كان يدخلون في دين الله مفعولاً ثانياً لعلمت، والتقدير : علمت الناس داخلين في دين الله.
المسألة الثانية : ظاهر لفظ الناس للعموم، فيقتضي أن يكون كل الناس كانوا قد دخلوا في الوجود مع أن الأمر ما كان كذلك الجواب : من وجهين الأول : أن المقصود من الإنسانية والعقل، إنما هو الدين والطاعة، على ما قال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ فمن أعرض عن الدين الحق وبقي على الكفر، فكأنه ليس بإنسان، وهذا المعنى هو المراد من قوله :﴿ أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ وقال :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا ﴾ وسئل الحسن بن علي عليه السلام. من الناس ؟
فقال : نحن الناس، وأشياعنا أشباه الناس، وأعداؤنا النسناس، فقبله علي عليه السلام بين عينيه، وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته، فإن قيل : إنهم إنما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير، فكيف استحقوا هذا المدح العظيم ؟
قلنا : هذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله، فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية طول عمره، فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره يقبل إيمانه، ويمدحه هذا المدح العظيم، ويروي أن الملائكة يقولون لمثل هذا الإنسان : أتيت وإن كنت قد أتيت. ويروى أنه عليه السلام قال :"لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد، والظمآن الوارد" والمعنى كان الرب تعالى يقول : ربيته سبعين سنة، فإن مات على كفره فلا بد وأن أبعثه إلى النار، فحينئذ يضيع إحساني إليه في سبعين سنة، فكلما كانت مدة الكفر والعصيان أكثر كانت التوبة عنها أشد قبولاً الوجه الثاني : في الجواب، روى أن المراد بالناس أهل اليمن، قال أبو هريرة : لما نزلت هذه السورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية، وقال : أجد نفس ربكم من قبل اليمن".
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥١


الصفحة التالية
Icon