المسألة الخامسة : في قوله :﴿وَاسْتَغْفِرْه ﴾ وجوهأحدها : لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه، ويسأل الله أن ينصره، فلما سمع :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ استبشر، لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة، فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين الله وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام، لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم ؟
ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول : إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئاً من تلك الأمتعة باعه منه، سواء كان المشتري عدواً أو ولياً، فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكياً أو مدنياً، ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له : أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم :/ ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها : أن قوله :﴿وَاسْتَغْفِرْه ﴾ إما أن يكون المراد واستغفر الله لنفسك أو لأمتك، فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال : صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوهاً : أحدها : أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة وثانيها : لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابراً للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلاً، وأما من قال : ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوهاً : أحدها : أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف الله بأنه غفار وثانيها : تعبده الله بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته، وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها : أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها : أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة، فليستغفر الله لأجل ذلك وخامسها : الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى الله إذا وصل إلى مقام في العبودية، ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصراً فيستغفر الله عنه، ولما كانت مراتب السير إلى الله غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية، أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضاً ظاهر، لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله :﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ﴾ فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم، وهكذا إذا قلنا : المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥٢
المسألة السادسة : في الآية إشكال، وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات، ثم الحمد مقدم على التسبيح، لأن الحمد يكون بسبب الإنعام، والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره، فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار، ثم بعده يذكر الحمد، ثم بعده يذكر التسبيح، فما السبب في أن صار مذكوراً على العكس من هذا الترتيب ؟
وجوابه : من وجوه أولها : لعله ابتدأ بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى الأخس فالأخس، تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها : فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلاً بجلال الله وعزته صار عين الذنب، فوجب الاستغفار منه وثالثها : للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق (الله)، والأول كالصلاة، والثاني كالزكاة، وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة، فكذا ههنا.
المسألة السابعة : الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار، وذلك من وجوه أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بإبلاغ السورة / إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواتراً، وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي، فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها : أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة، ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها : أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر، فأمر الله رسوله بالحمد والاستغفار دائماً، وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره، ثم قال : واستغفره حين نعيت نفسه إليه ليفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك.


الصفحة التالية
Icon