الفريق الثاني الذين قالوا : الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضاً، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية، وهم المسمون بصالحي الجن، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية، إذا عرفت هذا فنقول : الجنسية علة الضم، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
الفريق الثالث، وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معيناً فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين، وهو ذلك الفلك المعين، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولاً بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولاً بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم / وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة ـ فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلاً طائفة، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة، ويحصل بينها محبة ومودة، وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري، وإذا عرفت هذا فنقول : قالوا : إن العلة تكون أقوى من المعلول، فكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا، وأخرى في اليقظة في سبيل الإلهام، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوى اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين/ ويزعم أنها موجودات ليست أجساماً ولا جسمانية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات، والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية.
واعلم أن هذا باطل لوجهين : الأول : أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي، وهو النفس، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس. الثاني : هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية، فلم لا يجوز أن يقال : إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير، ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب.


الصفحة التالية
Icon