وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا : الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار ؟
وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق ؟
وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها، والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا : إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر ؟
فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى لقول بإبطالها.
وأما الجواب عن الشبهة الثانية : أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول : لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
دليل وجود الجن من القرآن :
المسألة الثانية : اعلم أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين : أما القرآن فآيات : الآية الأولى قوله تعالى :﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا ﴾ (الأحقاف : ٢٩، ٣٠) وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن، وعلى أنهم أنذروا قومهم، والآية الثانية قوله تعالى :﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ ﴾، (البقرة : ١٠٢) والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام :﴿يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍا اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ : ١٣) وقال تعالى :﴿وَالشَّيَـاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ﴾ (ص : ٣٨) وقال تعالى :﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ﴾ (سبأ : ١٢) ـ إلى قوله / تعالى :﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه ﴾ والآية الرابعة قوله تعالى :﴿يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍا اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (الرحمن : ٣٣) والآية الخامسة قوله تعالى :﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ﴾ (الصافات : ٧) وأما الأخبار فكثيرة : ـ
الخبر الأول : روى مالك في "الموطأ"، عن صيفي بن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري، قال : فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، قال : فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته، فإذا هي حية، فقمت لأقتلها، فأشار أبو سعيد أن إجلس، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال : ترى هذا البيت ؟
فقلت نعم، فقال : إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس، وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس، فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت : لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً : الفتى أم الحية، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إن بالمدينة جناً قد أسلوا، فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فءن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧


الصفحة التالية
Icon