﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة، فلو لم تحمله على الكبيرة قبل التوبة لزم تعطيل الآية، أما لو خصصنا عمومات الوعيد بمن يستحلها لم يلزم منه إلا تخصيص العموم، ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل، قالت المعتزلة : ترجيح جانب الوعيد أولى من وجوه. أولها : هو أن الأمة اتفقت على أن الفاسق يلعن ويحد على سبيل التنكيل والعذاب وأنه أهل الخزي وذلك يدل على أنه مستحق للعقاب وإذا كان مستحقاً للعقاب استحال أن يبقى في تلك الحالة مستحقاً للثواب، وإذا ثبت هذا كان جانب الوعيد راجحاً على جانب الوعد. أما بيان أنه يلعن، فالقرآن والإجماع، أما القرآن فقوله تعالى في قاتل المؤمن :﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه ﴾ (النساء : ٩٣) وكذا قوله :﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ﴾ (الأعراف : ٤٤) وأما الإجماع فظاهر، وأما أنه يحد على سبيل التنكيل فلقوله تعالى :﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّه ﴾ (المائدة : ٣٨) وأما أنه يحد على سبيل العذاب فلقوله تعالى في الزاني :﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآاـاِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور : ٢)، وأما أنهم أهل الخزي فلقوله تعالى في قطاع الطريق :﴿إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ذَالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة : ٣٣). وإذا ثبت كون الفاسق موصوفاً بهذه الصفات ثبت أنه مستحق للعذاب والذم، ومن كان مستحقاً لهما دائماً ومتى استحقهما دائماً امتنع أن يبقى مستحقاً للثواب، لأن الثواب والعقاب متنافيان، فالجمع بين استحقاقهما محال، وإذا لم يبق مستحقاً للثواب ثبت أن جانب الوعيد راجح على جانب الوعد، وثانيها : أن آيات الوعد عامة وآيات الوعيد خاصة والخاص مقدم على العام. وثالثها : أن الناس جبلوا على الفساد والظلم فكانت الحاجة إلى الزجر أشد، فكان جانب الوعيد أولى، قلنا : الجواب عن الأول من / وجوه : الأول : كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضاً وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم. قال الله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ (الأنعام : ٥٤)، فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يذمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا. الثاني : فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا، فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس. الثالث : أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالاً ولكن امتحاناً، فثبت أن قوله :﴿جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا﴾ (المائدة : ٣٨) مشروط بعدم التوبة، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون مشروطاً بعدم العفو. والرابع : أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافياً وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزياً وكافياً، فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة، وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول : الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما، فأما أن يقال : العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة، أو يقال : العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب. أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله :﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ﴾ لا يتناول الكفر وقوله :﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ (النساء : ١٤) (الأحزاب : ٣٦) يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم.
الحجة السادسة : أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨