الحجة السابعة : قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ (الزمر : ٥٣) وهو نص في المسألة. فإن قيل : هذه الآية إن دلت فإنما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة، وأنتم لا تقولون بهذا المذهب، فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه ؟
سلمنا ذلك، لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين : أحدهما : أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص، الثاني : أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى :﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾ (الزمر : ٥٤) والإنابة هي التوبة. فدل على أن التوبة شرط فيه، والجواب عن الأول. أن قوله :﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل، ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك، فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة، فيكون هذا قطعاً بالغفران لا محالة، وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق. ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول : إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محبطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها، والاعتراض عليه / من وجوه، الأول : أنه كما أن من شرط كون السيئة محيطة بالإنسان كونها كبيرة فكذلك شرط هذه الإحاطة عدم العفو، لأنه لو تحقق العفو لما تحققت إحاطة السيئة بالإنسان، فإذن لا يثبت كون السيئة محيطة بالإنسان إلا إذا ثبت عدم العفو، وهذا أول المسألة ويتوقف الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب وهو باطل. الثاني : أنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة، بل نفسرها بأن يكون ظاهره وباطنه موصوفاً بالمعصية، وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصياً لله بقلبه ولسانه وجوارحه، فأما المسلم الذي يكون مطيعاً لله بقلبه ولسانه ويكون عاصياً لله تعالى ببعض أعضائه دون البعض فههنا لا تتحق إحاطة الخطيئة بالعبد، ولا شك أن تفسير الإحاطة بما ذكرناه أولى، لأن الجسم إذا مس بعض أجزاء جسم آخر دون بعض لا يقال : إنه محيط به، وعند هذا يظهر أنه لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد إلا إذا كان كافراً. إذا ثبت هذا فنقول قوله :﴿فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ ﴾ يقتضي أن أصحاب النار ليسوا إلا هم وذلك يقتضي أن لا يكون صاحب الكبيرة من أهل النار، الثالث : أن قوله تعالى :﴿فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ ﴾ يقتضي كونهم في النار في الحال وذلك باطل، فوجب حمله على أنهم يستحقون النار. ونحن نقول بموجبه : لكن لا نزاع في أنه تعالى هل يعفو عن هذا الحق وهذا أول المسألة، ولنختم الكلام في هذه الآية بقاعدة فقهية : وهي أن الشرط ههنا أمران، أحدهما : اكتساب السيئة، والثاني : إحاطة تلك السيئة بالعبد والجزاء المعلق على وجود الشرطين لا يوجد عند حصل أحدهما. وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد، وذلك لفوائد : أحدها : ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان، وثانيها : أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام :"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا"، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق، وثالثها : أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً / أجاب القاضي بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة، إلا أن قوله : آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾. والجواب : أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى والإيمان هو المصدر، فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله : آمن دليلاً على صدور كل تلك الأعمال منه والله أعلم.