المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة لأنا نتكلم فيمن أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها، فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله :﴿أُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾، فإن قيل قوله تعالى :﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع الصالحات ومن جملة الصالحات التوبة، فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات، فلا يندرج تحت الآية. قلنا : قد بينا أنه قبل الإتيان بالكبيرة صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات، لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في كل الأوقات، لكن قولنا : آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا : إنه كذلك في كل الأوقات أو في بعض الأوقات، والمعتبر في الآية هو القدر المشترك، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد. بقي قولهم : إن الفاسق أحبط عقاب معصيته ثواب طاعته فيكون الترجيح لجانب الوعيد إلا أن الكلام عليه قد تقدم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
المسألة الثالثة : احتج الجبائي بهذه الآية على أن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلاً، لأن قوله :﴿أُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ ﴾ للحصر، فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد أنهم هم الذين يستحقونها فمن أعطى الجنة تفضلاً لم يدخل تحت هذا الحكم والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
اعلم أن هذا نوع آخر من أنواع النعم التي خصهم الله بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة، والموصل إلى النعمة نعمة، فهذا التكليف لا محالة من النعم، ثم إنه تعالى بين ههنا أنه كلفهم بأشياء : التكليف الأول : قوله تعالى :﴿لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي "يعبدون" بالياء والباقون بالتاء، ووجه الياء أنهم غيب أخبر عنهم، ووجه التاء أنهم كانوا مخاطبين والاختيار التاء، قال أبو عمرو : ألا ترى أنه جل ذكره قال :﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ فدلت المخاطبة على التاء.
المسألة الثانية : اختلفوا في موضع "يعبدون" من الأعراب على خمسة أقوال :
القول الأول : قال الكسائي : رفعه على أن لا يعبدوا كأنه قيل : أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا إلا أنه لما أسقطت "أن" رفع الفعل كما قال طرفة :
ألا أيهذا اللاثمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه "أن" وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم.
القول الثاني : موضعه رفع على أنه جواب القسم، كأنه قيل : وإذا أقسمنا عليهم لا يعبدون، وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش.
القول الثالث : قول قطرب : أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصباً كأنه قال : أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله.
القول الرابع : قول الفراء أن موضع "لا تعبدون" على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى :﴿لا تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا﴾ (البقرة : ٢٣٣) بالرفع والمعنى على النهي، والذي يؤكد كونه نهياً أمور. أحدها : قوله :﴿أَقِيمُوا ﴾، وثانيها ؛ أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي :﴿لا تَعْبُدُوا ﴾. وثالثها : أن الإخبار في معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
القول الخامس : التقدير أن لا تعبدوا تكون "أن" مع الفعل بدلاً عن الميثاق، كأنه قيل : أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم.
المسألة الثالثة : هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بد منه في الدين لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله تعالى ونهى عن عبادة غيره، ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة، فقوله :﴿لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ﴾ يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها.
التكليف الثاني : قوله تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ وفيه مسائل :