المسألة الأولى : يقال : بم يتصل الباء في قوله تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ وعلام انتصب ؟
قلنا فيه ثلاثة أقوال : الأول : قال الزجاج : انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحساناً. والثاني : قيل على معنى وصيناهم بالوالدين إحساناً لأن اتصال الباء به أحسن على هذا الوجه ولو كان على الأول لكان. وإلى الوالدين كأنه قيل : وأحسنوا إلى الوالدين. الثالث : قيل : بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول يعني أن تعبدوا وتحسنوا.
المسألة الثانية : إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه. أحدها : أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم، وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعمان عليه بالتربية، وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود، بل بالتربية فقط، فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى. وثانيها : أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر، فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر. وثالثها : أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضاً ألبتة بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً مالياً ولا ثواباً، فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه، فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى. الرابع : أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه، وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما، وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين. الخامس : كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد كما قال :﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ ﴾ (البقرة : ٢٦١). السادس : أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة، إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فاعتدلا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
المسألة الثالثة : اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين، ويدل عليه وجوه. أحدها : أن قوله في هذه الآية :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا، ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾. وثانيها : قوله تعالى :﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾ الآية، وهذا نهاية المبالغة في المنع من إياذئهما، ثم إنه تعالى قال في آخر الآية :﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾ (الإسراء : ٢٣، ٢٤) فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم. وثالثها : أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله :﴿لابِيهِ يَـا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٤٢) ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك، وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة لقوله تعالى :﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ (النحل : ١٢٣).
المسألة الرابعة : اعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما ألبتة ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه، فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين.
التكليف الثالث : قوله تعالى :﴿وَذِى الْقُرْبَى ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon