وأما قوله :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ﴾ ففيه وجوه. أحدها : أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلّم، وثانيها : أنه خطاب مع أسلافهم، وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم. وثالثها : أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى :﴿أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ﴾ أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه.
أما قوله تعالى :﴿لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ﴾ ففيه إشكال، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه. والجواب عنه من أوجه، أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفاً به، وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضاً، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسباً وديناً وهو كقوله تعالى :﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (البقرة : ٥٤) / وثالثها : أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه، ورابعها : لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم، وخامسها : لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم.
أما قوله تعالى :﴿وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم﴾ ففيه وجهان، الأول : لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم، الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك.
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ففيه وجوه، أحدها : وهو الأقوى، أي : ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها، وثانيها : اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً. وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق، ورابعها : الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال : فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته، فإن قيل : لم قال :﴿أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ والمعنى واحد، قلنا فيه ثلاثة أقوال : الأول : أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم، الثاني : أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون، الثالث : أنه للتأكيد.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٠
٥٩١
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَـا ؤُلاءِ﴾ ففيه إشكال لأن قوله :﴿أَنتُمْ﴾ للحاضرين و﴿هَـا ؤُلاءِ﴾ للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب، وجوابه من وجوه، أحدها : تقديره ثم أنتم يا هؤلاء، وثانيها : تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين، وثالثها : أنه بمعنى الذي وصلته "تقتلون" وموضع تقتلون رفع إذا كان خبراً ولا موضع له إذا كان صلة. قال الزجاج : ومثله في الصلة قوله تعالى :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ (طه : ١٧) يعني وما تلك التي بيمينك، ورابعها : هؤلاء تأكيد لأنتم، والخبر "تقتلون"، وأما قوله تعالى :﴿تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ فقد ذكرنا فيه الوجوه، وأصحها أن المراد يقتل بعضكم بعضاً، وقتل البعض للبعض قد يقال فيه إنه قتل للنفس إذ كان الكل بمنزلة النفس الواحدة وبينا المراد بالإخراج من الديار ما هو.
أما قوله تعالى :﴿تَظَـاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي "تظاهرون" بتخفيف الظاء، والباقون بالتشديد فوجه التخفيف الحذف لإحدى التاءين كقوله :﴿وَلا تَعَاوَنُوا ﴾ ووجه التشديد إدغام التاء في الظاء، كقوله تعالى :﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ (التوبة : ٣٨) والحذف أخف والادغام أدل على الأصل.
المسألة الثانية : اعلم أن التظاهر هو التعاون، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة، فإن قيل : أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم وأزال العوائق والموانع وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى، والجواب : أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر، بخلاف المعين للظالم على ظلمه فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق.


الصفحة التالية
Icon