المسألة الرابعة : الآية لا تدل على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر، بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم، فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة.
أما قوله تعالى :﴿وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـارَى تُفَـادُوهُمْ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وعاصم والكسائي :(أسارى تفادوهم) بالألف فيهما، وقرأ حمزة وحده بغير ألف فيهما والباقون :"أسارى" بالألف و"تفدوهم" بغير ألف و"الأسرى" جمع أسير كجريح وجرحى، وفي أسارى قولان : أحدهما : أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى، والثاني : جمع أسير، وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى، وقال : الأسارى الذين في وثاق، والأسرى الذين في اليد، كأنه يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة/ وأنكر ثعلب ذلك، وقال / علي ابن عيسى : الاختيار أسارى بالألف لأن عليه أكثر الأئمة ولأنه أدل على معنى الجمع إذ كان يقال بكثرة فيه، وهو قليل في الواحد نحو شكاعى ولأنها لغة أهل الحجاز.
المسألة الثانية : تفدوهم وتفادوهم لغتان مشهورتان تفدوهم من الفداء وهو العوض من الشيء صيانة له، يقال : فداه فدية وتفادوهم من المفاداة.
المسألة الثالثة : جمهور المفسرين قالوا : المراد من قوله :﴿تُفَـادُوهُمْ﴾ وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم، وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك، والمراد أنكم مع القتل والإخراج إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال، وإن كان ذلك محرماً عليكم ثم عنده تخرجونه من الأسر، قال أبو مسلم والمفسرون : إنما أتوا من جهة قوله تعالى :﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾، وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم وما أنزل عليهم، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض، وكلا القولين يحتمل لفظ المفادة لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه والأخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك، إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب، لأن عود قوله :﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١
المسألة الرابعة : قال بعضهم : الذين أخرجوا والذين فودوا فريق واحد، وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس. فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالوا : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا، وقال آخرون : ليس الذين أخرجوهم فودوا ولكنهم قوم آخرون فعابهم الله عليه.
أما قوله تعالى :﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ ففي قوله :﴿وَهُوَ﴾ وجهان، الأول : أنه ضمير القصة والشأن كأنه قيل والقصة محرم عليكم إخراجهم، الثاني : أنه كناية عن الإخراج أعيد ذكره توكيداً لأنه فصل بينهما بكلام فموضعه على هذا رفع كأنه قيل وإخراجهم محرم عليكم، ثم أعيد ذكر إخراجهم مبيناً للأول.
أما قوله :﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ فقد اختلف العلماء فيه على وجهين. أحدهما : أخراجهم كفر، وفداؤهم إيمان، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج، ولم يذمهم على الفداء، وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم لا يقال هب أن ذلك الإخراج معصية، فلم سماها كفراً مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر، لأنا نقول لعلهم صرحوا أن ذلك الإخراج غير واجب / مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه. وثالثهما : المراد منه التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلّم مع أن الحجة في أمرهما على سواء يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض والكل في الميثاق سواء.


الصفحة التالية
Icon