أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَـا ؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ فأصل الخزي الذل والمقت. يقال : أخزاه الله، إذا مقته وأبعده، وقيل : أصله الاستحياء، فإذا قيل : أخزاه الله كأنه قيل : أوقعه موقعاً يستحيا منه، وبالجملة فالمراد منه الذم العظيم، واختلفوا في هذا الخزي على وجوه. أحدها : قال الحسن : المراد الجزية والصغار/ وهو ضعيف لأنه لا دلالة على أن الجزية كانت ثابتة في شريعتهم، بل إن حملنا الآية على الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم صح هذا الوجه، لأن من جملة الخزي الواقع بأهل الذمة أخذ الجزية منهم. وثانيها : إخراج بني النضير من ديارهم، وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وهذا إنما يصح لو حملنا الآية على الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم، وثالثها : وهو الأولى أن المراد منه الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض والتنكير في قوله :"خزي" يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١
أما قوله :﴿وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى ا أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾ ففيه سؤال وهو أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود، فكيف قال في حق اليهود :﴿يُرَدُّونَ إِلَى ا أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾ والجواب : المراد منه أنه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا، فلفظ "الأشد" وإن كان مطلقاً إلا أن المراد أشد من هذه الجهة.
أما قوله تعالى :﴿وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبية، وجه الأول : البناء على أول الكلام، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، ووجه الثاني : البناء على أنه آخر الكلام واختيار الخطاب لأن عليه الأكثر ولأنه أدل على المعنى لتغليب الخطاب على الغيبة إذا اجتمعا.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة، لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق لا محالة إلى مستحقيها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١
اعلم أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد، فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوت الآخر على نفسه، فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء، وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى.
أما قوله تعالى :﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في دخول الفاء في قوله :﴿فَلا يُخَفَّفُ﴾ قولان، أحدهما : العطف على ﴿اشْتَرَوُا ﴾ والقول الآخر بمعنى جواب الأمر، كقولك أولئك الضلال انتبه فلا خير فيهم والأول أوجه لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار.
المسألة الثانية : بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع بل يدوم، لأنه لو انقطع لكان قد خف، وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال : إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات، فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه.
أما قوله تعالى :﴿وَلا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ ففيه وجهان : الأكثرون حملوه على نفي النصرة في الآخرة يعني أن أحداً لا يدفع هذا العذاب عنهم ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم ومنهم من حمله على نفي النصرة في الدنيا، والأول أولى لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم، ولذلك قال :﴿فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة، لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١
٥٩٤
اعلم أن هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة، وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل / أنفسهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة، زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية. أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة، روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها.
وأما قوله تعالى :﴿وَقَفَّيْنَا مِنا بَعْدِه بِالرُّسُلِ ﴾ ففيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon