المسألة الأولى : قفينا، أتبعنا مأخوذ من الشيء يأتي في قفاه الشيء، أي بعد نحو ذنبه من الذنب، ونظيره قوله :﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾ (المؤمنون : ٤٤).
المسألة الثانية : روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام، فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة، واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى :﴿وَقَفَّيْنَا مِنا بَعْدِه بِالرُّسُلِ ﴾ فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها، قال القاضي : إن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان، مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول، لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولاً لا شريعة معه أصلاً، تبين العقليات لهذه العلة، فكذا القول في مسألتنا : فثبت أنه لا بد في الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى. والجواب : لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله، وبالجملة، فالقاضي ما أتى في هذه الدلالة إلا بإعادة الدعوى، فلم قال : إنه لا يجوز بعث هؤلاء الرسل إلا لشريعة جديدة أو لإحياء شريعة اندرست وهل النزاع وقع إلا في هذا ؟
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٤
المسألة الثالثة : هؤلاء الرسل هم : يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان وشعياء، وأرمياء، وعزيز، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.
أما قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأن شرعة نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام.
المسألة الثانية : قيل عيسى بالسريانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وقيل : مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال، وبه فسر قول رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمة
المسألة الثالثة : في البينات وجوه. أحدها : المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس/ وثانيها : أنها الإنجيل. وثالثها : وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه، لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى.
أما قوله تعالى تعالى :﴿وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء وأيدناه قرأ ابن كثير "القدس" بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهما لغتان مثل رعب ورعب.
المسألة الثانية : اختلفوا في الروح على وجوه. أحدها : أنه جبريل عليه السلام وإنما سمي بذلك لوجوه. الأول : أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال : حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلو مرتبته عند الله تعالى. الثاني : سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح فإنه هو المتولى لإنزال الوحي إلى الأنبياء والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم. الثالث : أن الغالب عليه الروحانية وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل. الرابع : سمي جبريل عليه السلام روحاً، لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات، وثانيها : المراد بروح القدس الإنجيل، كما قال في القرآن :﴿رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ (الشورى : ٥٢) وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله. وثالثها : أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ورابعها : أنه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيماً له وتشريفاً، كما يقال : بيت الله وناقة الله، عن الربيع، وعلى هذاب المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٤


الصفحة التالية
Icon